إشعال الحرائق.. سياسة قديمة يتبعها نظام العسكر على مدار أكثر من ستين عاما، بهدف طمس هوية كل فساد في أي من مؤسسات الدولة.
واتبع هذه السياسة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حينما أحرق مجهولون مدينة القاهرة، قبل الثورة مباشرة، ما أدى إلى استقالة وزارة الوفد ذات الشعبية الكبيرة، ثم قيام مجموعة الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر بقلب نظام الحكم وإبعاد الملك فاروق خارج البلاد في 23 يوليو 1952.
ورغم مرور 66 عاما على هذه الجريمة، لا يزال الفاعل مجهولا.
في لقاء مع اللواء جمال حماد، الذي كان أحد كبار الضباط الأحرار، أذاعته قناة «الجزيرة» في 17 نوفمبر 2008، قال له أحمد منصور: «هناك علامات استفهام كثيرة طالما ذكرت جمال عبد الناصر، حول دور أو علاقة لجمال عبد الناصر في حريق القاهرة».
وسأله منصور عن العلاقة بين حريق القاهرة وقرار الضباط الأحرار بالإسراع في تنفيذ خطة الانقلاب الذي كانوا يعدون له، فرد جمال حماد قائلا: «يوم 26 يناير ده، يعني (هو) اللي أيقظنا إنه لازم نعجل بالثورة.. كان أول تحديد إن الثورة تقوم في 1955.. (لكن) بعد حريق القاهرة، ، حددناه في 1952».
حرائق يوليو
ويبدو أن حريق يوليو الكبير بانقلاب العسكر على الملك فاروق 1952، أصبح هو الملهم لحرائق مصر على مر العصور، فمع انتهاء عمال الجرد في نهاية السنة المالية في شهر يوليو من كل عام، تتكرر بلاغات الحرائق، خاصة في بعض المصالح الحكومية .. والسبب دائما الجندي المجهول ” ماس كهربائي”.. في الوقت الذي تشير كل المعلومات إلى أن الحرائق مفتعلة.
ومع مسلسل حرائق الصيف، الذي بدأ في الموسكي، ثم في نقابة التجاريين، ومع حرارة الأجواء التي تشهدها البلاد هذه الأيام تتضاعف تلك المخاوف، ويحاول المواطنون البحث عن حلول لمواجهة المشكلة التي تتجدّد كل عام، بسبب الحرائق المتكررة في فصل الصيف التي تحولت إلى عادة تعود عليها المصريون، وأدمنها المختلسون للعهد من المخازن الحكومية، للتغطية على جرائمهم، وأصبح المتهم الدائم الذي يسوقه المسئولون كلما شبّ حريق هو اتهام أعقاب السجائر أو الماس الكهربائي، ولك حرية الاختيار.
عشرات الحرائق الكبيرة خلال فترة الجرد السنوي لمخازن الشركات والمصانع، لأن أي نقص في المخزن نتيجة للسرقة أو للإهمال لا يخفيه سوى الحريق، وعندما تسأل عن البضائع الناقصة تكون الإجابة: “التهمها الحريق”.
ولعل مسلسل الحرائق الذي أنتج منه الفاسدون أجزاء وسلاسل جديدة موسمية، يبحث عن ضحايا جدد ومنشآت مهمة يلتهمها، سيناريو هزلي مؤسف يتكرر باستمرار، والنتيجة واحدة، ضحايا أبرياء، وإهدار ملايين الجنيهات.
“حرائق الصيف”
أصبحت حرائق الصيف موسمية، وتهدّد الاقتصاد وأرواح البشر يوميا، ويقابلها دائما عجز الأجهزة المسئولة في الدولة عن حل تلك المشكلة السنوية والتعامل مع الأسباب التي قد تقود لاندلاع الحرائق أو محاسبة المتسببين فيها، وبالتالي عدم السيطرة عليها، مما ينذر بمفاجآت قد تكون أكبر، ندق جرس الإنذار أمام مختلف الجهات المعنية.
ويتزامن فصل الصيف مع موسم الجرد لبعض المصانع والمستودعات، ويبدأ معه موسم الحرائق التي تكلف الدولة والمستثمرين مليارات الجنيهات خسائر ناشئة عنها، وخسائر اقتصادية هائلة مرتبطة بجملة الاستثمارات التي تلتهمها ألسنة النيران، وتشير أصابع الاتهام في أغلب هذه الحرائق إلى الماس الكهربي الذي يثبت براءته في 90 بالمائة منها، أو أسباب أخرى يعلقون عليها أسباب الحرائق، ومنها تجاهل المنشآت لأنظمة السلامة الصناعية، وتركيب وحدات مكافحة الحرائق والأمن الصناعي.
ويطل علينا كل عام مالي، وقبل موسم الجرد السنوي حرائق مجهولة المصدر تشتعل في الشون والمخازن والمكاتب “موسم الحرائق”، وللأسف معظمها بالقطاع العام والوزرات الحكومية، وكان رجال الإطفاء ينتظرون بدء لجان الجرد أعمالها ليبدأ موسم عملهم السنوي، وفي أغلب الأحيان يتم اكتشاف أن الفاعل المجهول كان يداري على اختلاسه بضائع قيمتها لا تتجاوز بضع عشرات الآلاف من الجنيهات، بينما تلتهم النيران الملايين.
موسم حرائق المخازن الحكومية السنوى في آخر شهر يونيو، أي قبل ميعاد الجرد السنوي، وفى الغالب يكون المتسبب في الحريق “أمين المخزن”، لكى يفلت من تهمة تبديد العهدة.
ومن الحرائق الكبرى التي شهدتها مصر خلال الأعوام الأخيرة، حريقان كبيران دمرا مخزنا لوزارة المالية ومصلحة الجمارك .
وأكدت كل التحقيقات التي تمت لمتابعة أسباب هذه الحرائق، أن إهمال العنصر البشري يقف وراء 55٪ من الحرائق التي تشهدها مصر، بينما تقع حوادث الحريق المتعمدة بنسبة 45٪، وتتركز في الشهور الستة الأولى من العام قبل، جرد المخازن العامة في شهر يونيو.
وأوضحت التحقيقات أن متوسط نشوب الحرائق ة يتركز في نحو 24 ألف حريق سنويا، وتشير الإحصاءات التي أجراها الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء إلى أن حجم الخسائر الناجمة عن هذه الحرائق تصل لـ 400 مليون جنيه في العام الواحد.
وشهدت مستشفى الحسين خلال أعوام 2016 و 2017 و 2018 حرائق كانت كلها في شهر يوليو، كما أن سنترال العتبة كان في النصف الأول من شهر أغسطس، وحريق الموسكي شهر يوليو، وحريق نقابة التجاريين شهر يوليو، لتجد أن كل الحرائق لا تتم إلا في شهر يوليو، ويكون دائما الهدف هو إحراق ملفات الفساد ودفنها، واستمرار دولة العسكر على أقوات الغلابة.