يتساءل الكثير عن سر محاربة عبد الفتاح السيسي للجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني في مصر، وظن البعض في البداية أنها نتيجة اتشحاها بالرداء الإسلامي، خاصة مع الخلفية التي يظهر بها السيسي من الحديث عن عداوته لك ما هو إسلامين حتى إن هذا ظهر من خلال تدوينات نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي بتداول صور السيسي مصليا متجهما عبوسا، كأنه يتألم خلال وقفته في الصلاة، فضلا عن أن أغلب منظمات المجتمع المدني تعمل في نشر قيم الديمقراطية والحريات، وهو ما يتعارض مع ثقافة الاستبداد والحكم العسكري.
ومع إعلان مفتي العسكر السابق علي جمعة، بالحث على التبرع لصندوق تحيا مصر، دونا عن الجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني، اتضحت الصورة بشكل مختلف عما قبله، بأن سر العداوة السيساوية لهذه الجمعيات الخيرية والمنظمات ربما يكمن في استحواذ هذه الجميعات على نصيب الأسد من تبرعات المصريين، خاصة مع نزاهة الكثير منها والحصول على ثقة المصريين في إيصال هذه التبرعات لمستحقيها من الفقراء، لتكون هذه الجمعيات هي المنافس الشرس لصندوق السيسي الذي كان يسعى من خلاله للسيطرة على هذه التبرعات وضمها لجيوب العسكر، فضلا عن غلق أي منظمة تشكل خطرا على حكم السيسي.
وفي هذا الإطار، كشف تقرير صحفي عن سر هذه العداوة، حيث حكى القصة من بدايتها حينما زارت مجموعة من ضباط الجيش المصري واشنطن لأول مرة بعد خلع الرئيس حسني مبارك 2011.
وأشار وقتها الكاتب الأمريكي ستيفن أ.كوك، في مقاله الذي نشرته مجلة Foreign Policy الأمريكية إلى العداوة بين حكومات الشرق الأوسط وليس نظام السيسي فقط وبين منظمات المجتمع المدني،
وقال المقال إن الوفد العسكري في الاجتماعات العلنية والمغلقة بالعاصمة الأمريكية، ومنها وزارة الدفاع والمعهد الأمريكي للسلام، كان يؤكد أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي تولى السلطة التنفيذية بعد خلع مبارك “يُعِدُّ البلاد للديمقراطية”. وحين سأل بعض الحاضرين عن فرض قيود ثقيلة على منظمات المجتمع المدني، تلاشت الروح البناءة والودودة لـ”مصر الجديدة” وحلَّت روح “مصر القديمة” الجامدة. وحين ضغط الصحفيون على أعضاء الوفد غضبوا.
وأكد التقرير أن القصة جزءٌ من نمطٍ يعم المنطقة بأكملها. الدليل على ذلك أن الحكومة السعودية اعتقلت الأسبوع الماضي 11 ناشطاً، وإن كانت بعض التقارير تشير إلى أن العدد وصل إلى 17، أحدهم على الأقل كان عضواً في منظمةٍ غير حكومية تأسَّسَت عام 2009 ثم حُلَّت عام 2013. أما الآخرون فتشير التقارير إلى أنهم كانوا ينوون تأسيس منظمة غير حكومية لدعم ضحايا العنف الأسري.

نعتت الصحافة السعودية النشطاء المعتقلين بأنهم “خونة”. وبالتوازي مع ذلك، أصبح موظفو المنظمات غير الحكومية في مصر أعداءً افتراضيين للدولة. أما عن تونس، فسعياً منها للحفاظ على سمعتها باعتبارها “قصة النجاح الوحيدة” في الربيع العربي، أوجدت مناخاً مُرحِّباً بتلك المجموعات، ولكن حتى في تونس هناك قيودٌ مفروضة على قدرة تلك المنظمات على العمل في ظل حالة الطوارئ التي تشهدها البلاد وغيرها من القوانين التي تفرض قيوداً على الحق في التجمع. جميع هذه الحالات تفرض سؤالاً مهماً: لماذا يكره زعماء الشرق الأوسط المنظمات غير الحكومية؟ “إجابةُ هذا السؤال أعقد مما نميل نحن في الغرب إلى أن نعتقد” كما يقول كوك.
كما تُعَد المنظمات غير الحكومية جزءاً مما يُطلِق عليه علماء الاجتماع “المجتمع المدني”. وعلى الرغم من غياب الإجماع على تعريف “المجتمع المدني”، قدَّم المُنظِّر الراحل للتحوُّل الديمقراطي ألفريد ستيبان وزميله خوان لينز واحداً من أفضل التوصيفات للمجتمع المدني، حيث يُحدَّد بأنه “مساحةٌ للعمل العام تحاول فيه مجموعةٌ ذاتية وحركاتٌ وأفرادٌ بصورةٍ ذاتية التنظيم، وعلى نحوٍ مستقلٍ نسبياً عن الدولة، التعبير عن قيمٍ بعينها، وتأسيس جمعيات ومؤسسات تضامنية والعمل على تحقيق تقدم في مجالات اهتمامها”.
ويُعَد هذا التعريف في حدِّ ذاته مدعاة للضغط الذي وضعته حكومات الشرق الأوسط على المنظمات غير الحكومية. فزعماء هذه المنطقة لا يتصرَّفون كما ينبغي مع أفكار على شاكلة “التنظيم الذاتي”، و”الاستقلال نسبياً عن الدولة”، و”إنشاء جميعات ومجموعات تضامنية”. “السبب في ذلك بالغ الوضوح لدينا، وإن كنَّا لا نقصد مِن ذكره التبرير للقمع: لدى مجموعات المجتمع المدني القدرة على مساعدة الناس من ذوي الاهتمامات المشتركة في التغلُّب على المُعوِّقات الكبيرة التي وضعتها حكومات الشرق الأوسط لعرقلة القدرة على العمل الجماعي؛ وخلال هذه العملية تجد مظالم الشعوب متنفَّساً للتعبير عن نفسها”، على حد تعبير كوك.
ولا يلزم بطبيعة الحال، أن تكون جميع المنظمات غير الحكومية معارضة للدولة، وحتى حين تكون في مقاعد المعارضة يمكنها أن تخدم مصالح الزعماء. ومن بين الأمثلة على ذلك، انحياز المنظمات المهتمة بالدفاع عن قضايا المرأة، في بداية تسعينيات القرن العشرين، إلى الجيش الجزائري حين أبطل نتيجة الانتخابات التي أوصلت “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” إلى سدة الحكم.
وكشف التقرير أنه بالرغم من مساعدة عدد كبير من منظمات المجتمع المدني لانقلاب السيسي على الرئيس محمد مرسي، خاصة المنظمات التي كانت تعادي الحكم الإسلامي، إلا أن السيسي في مصر انقلب على هذه المنظمات جميعا بعد أن حصل منها على ما يريد، وذلك خوفا من أن تشكل خطرا على حكمه.
ويقول رونالد كريبس وجيمس رون في مقال نشراه حديثاً بمجلة Foreign Policy الأمريكية، إن الشمولية التي تنظر بضيق أفق إلى المصلحة الذاتية هي التفسير الوحيد للتعامل الخشن مع المنظمات غير الحكومية في جميع أرجاء الشرق الأوسط. فالقمع والتتبع اللذان تتعرضان له تلك المجموعات يبدو بعيداً كل البُعد عن أي دليل على قدرتها على إحداث تغيير سياسي يعتد به في المنطقة. لا شك في أن المنظمات غير الحكومية كان لها بالغ الأثر في مساعدة المحتاجين بجميع أنحاء الشرق الأوسط، غير أن المنظمات المختصة في الحكم الرشيد وحقوق الإنسان، على سبيل المثال، لم تترك أثراً يُذكر”.
ولكن، إن لم تكن الشمولية هي السبب، فما هو إذاً؟ ولماذا يعامل الزعماء العسكريون في الشرق الأوسط ممن لديهم دبابات وطائرات وصواريخ تأتمر بأمرهم، العرب الساعين للدفاع عن حرية تكوين الجمعيات باعتبارهم مصدراً لمشكلة كبيرة؟ السبب أن التهديد لا يكمن في إرخاء القبضة الشمولية على السلطة، ولكن السبب ذو طابع تجريدي أكبر: وهو هشاشة الشعور بالهوية والسيادة في الشرق الأوسط.
وينظر القادة العرب بصورةٍ أساسية إلى المنظمات غير الحكومية، وتحديداً تلك التي تتلقى تمويلاً أجنبياً، باعتبارها عميلة لمشروع نيواستعماري. وثمة مفارقة لا تخطئها عين، تتجلى من خلال نفاق موقف تلك الحكومات، التي إما تتلقى مساعدات أجنبية بمبالغ طائلة أو التي تعتمد على الغرب لتوفير أمنها. ومع ذلك، يبقى موقف تلك الحكومات فعَّالاً ومُؤثِّراً.
الحق أن تاريخ المنطقة والروايات القومية التي نشأت وانتشرت على مدار القرن العشرين حوَّلَت جماعات المجتمع المدني إلى هدفٍ طبيعي للسلطات الشمولية في الشرق الأوسط، التي تميل إلى تصوير المدافعين عن حقوق الإنسان ونشطاء الحكم الرشيد الذين يتلقون تمويلاً غربياً، باعتبارهم آخر تجلياتِ مهمةِ نقلِ الحضارة التي لأجلها أتى المستعمر الأوروبي إلى شمال إفريقيا والشام.
ويعتبر الكاتب الأمريكي ستيفن كوك أن مصر دائماً ما تقع أحداث تذكِّرها بسيادتها المعرضة للخطر. ولا تقتصر تلك الأحداث على أنها لا بد أن تحصل على موافقة إسرائيل قبل إبداء أي مظاهر عسكرية على أرضها (كما حصل في سيناء مؤخراً) ولا على قضية جزيرتي تيران وصنافير (اللتين أصبحتا سعوديتين)، ولكن يشمل أيضاً تمرير الحكومة الأمريكية تعديل على قانون المخصصات الموحدة لعام 2005، وهو تعديل أعلن أن برامج الحوكمة والديمقراطية الأمريكية، وكذلك المجموعة التي وقع عليها الاختيار لتنفيذ تلك البرامج، لا تحتاج موافقةً مُسبَّقةً من الحكومة المصرية. ربما كان هذا هو التصرُّف المعقول بواشنطن حينها إذا ما أخذنا في الاعتبار جهود الرئيس المخلوع آنذاك حسني مبارك لتقويض “أجندة الحرية” التي وضعها الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش الابن.
وفي نظر الجيش المصري، كان هذا انتهاكاً صارخاً للسيادة، وتم اعتقال العاملين في المنظمات التي تم تمويلها أمريكياً. أما السعودية، فيعتبر الكاتب أن المنظمات غير الحكومية ومموليها الأجانب لا يملكون تأثيراً مباشراً على سيادتها، غير أن هذه المنظمات في نظر حكام السعودية تملك القدرة على إفساد الميزان السياسي الدقيق الذي يوحد البلاد، ومن ثم فهي تُقوِّض الاستقرار وتُعرِّض سيادة الدولة للخطر.