براءة اثنين من كبار مساعدي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وهما سعود القحطاني، والنائب السابق لمدير الاستخبارات اللواء أحمد عسيري، إضافة إلى القنصل السعودي في إسطنبول محمد العتيبي، من جريمة مقتل خاشقجي يعني ادخارهم لجرائم أخرى قادمة بعد انتهاء قمة “G 20”. وبات على المعارضين في الخارج واجب مضاعفة الضغط على المجتمع الدولي؛ حتى لا تمر الجريمة بدون عقاب للفاعلين الرئيسين، ولا سيما ابن سلمان وفريقه المقرّب.
وبعد مرور أكثر من عام على حادثة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي، في القنصلية السعودية في إسطنبول، والمحاولات السعودية الحثيثة لاحتواء الأزمة التي ولّدتها تلك الجريمة، أعلنت النيابة العامة في الرياض، أمس، عن أحكام أولية بالإعدام لخمسة أشخاص في القضية، رغم أنّها اعتبرت أنّ الجريمة المروّعة، التي تخلّلها تقطيع جسد خاشقجي، “لم تتم بنيّة مسبقة” بل كانت وليدة اللحظة!.
بعيدًا من الأضواء
وقال المتحدث باسم النيابة العامة شعلان الشعلان: إن القنصل السعودي في إسطنبول أُفرج عنه بعد ورود إنابة قضائية من الجانب التركي تضمنت شهادات لمواطنين أتراك بوجوده معهم يوم وقوع الجريمة، وأن عسيري خضع للتحقيق، وصدر حكم بإخلاء سبيله لعدم ثبوت إدانته في القضية.
ويثير إطلاق سراح العسيري، وعدم توجيه اتهام القحطاني، الأسئلة مجدّدا حول من أمر بتنفيذ العملية التي قالت السلطات في الماضي إنّ هدفها كان إعادة خاشقجي إلى السعودية، خاصة أن دبلوماسيين حضروا جلسات قالوا إنّ المتهمين قالوا خلال اعترافهم إن العسيري، الذي أعفي من منصبه بعد أيام من وقوع الجريمة، “هو الذي أصدر الأوامر”.
ووفقًا لبيان سابق من مكتب المدعي العام السعودي، فإن القحطاني المعروف بأسلوبه الهجومي على وسائل التواصل الاجتماعي، التقى المجموعة قبل سفرها إلى تركيا بهدف مشاركتها في معلومات متّصلة بالمهمة، ورغم ذلك، لم تُوجّه له أي تهمة.
ويقول سعوديون، إن المستشار السابق لا يزال يتمتع بالقدرة على التأثير بعيدا عن الأضواء، بينما يشير آخرون إلى أنه فضّل الابتعاد إلى حين تراجع وتيرة ردود الفعل الغاضبة في العواصم الكبرى.
ولم تعلن السلطات أسماء الذين صدرت في حقهم أحكام الإعدام والسجن. والمعروف أنّ ماهر المطرب، المسئول السابق في جهاز الاستخبارات والذي كان يرافق ولي العهد في رحلاته الخارجية، هو واحد من المتهمين الـ11. وقد ورد اسمه على لائحتَي عقوبات أمريكيتين عرّفتا عنه بأنّه يعمل تحت إمرة القحطاني. ومن بين المتهمين الذين جرت محاكمتهم أيضًا خبير الأدلة الجنائية صلاح الطبيقي، والعضو في الحرس الملكي فهد البلوي.
تقصير دولي
ووجدت تركيا نفسها، بدءا من الثاني من أكتوبر 2018، تاريخ دخول الكاتب والإعلامي السعودي جمال خاشقجي قنصلية بلاده في إسطنبول من دون أن يخرج منها، أمام مسئولية كشف تفاصيل مصيره، لا سيما بعد نفي السلطات السعودية احتجازه أو بقاءه داخل القنصلية لأيام عدة، مؤكدة خروجه منها، قبل أن تعود وتعترف بكذب روايتها.
وعلى مدى عام، حاولت تركيا تجنب تحويل القضية إلى ورقة للمساومة السياسية، فيما أعاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، التأكيد في مقالة كتبها لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية، أن السعي لعدم بقاء الجناة بدون عقاب “دَين علينا لعائلة جمال خاشقجي”.
كما انتقد الأداء السعودي تجاه الجريمة، مشيرا إلى أن “ادعاءات إدارة المحاكمة بعيدا عن الشفافية، وراء الأبواب المغلقة وإخلاء سبيل المتهمين بشكل غير رسمي، يتنافى مع ما ينتظره المجتمع الدولي ويؤثر سلبيا على صورة السعودية. ونحن لا نريد هذا للسعودية الحليفة والصديقة”.
ولم تتأخر السلطات التركية في بلورة استراتيجية إدارة أزمة اختفاء خاشقجي قبل أن يتبين اغتياله، وذلك على المستويات القانونية، فضلا عن السياسية والدبلوماسية والإعلامية، وكشف ملابسات القضية أمام المجتمع الدولي، لا سيما بعدما ظهر أنها تواجه جريمة غير مسبوقة، تشمل قتل خاشقجي وتقطيع جثته، وتورط فيها أعلى المسئولين السعوديين، وسط محاولات للتغطية على ما حدث، ليس فقط من قبل الرياض بل أيضا من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في محاولة لحماية ولي العهد السعودي وتبرئته منها.
وليست جريمة مقتل خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول هي الانتهاك الوحيد للمملكة العربية السعودية، وإن كانت أبرزها وأكثرها تعقيدا، بل يمكن الجزم بأن حقوق الإنسان تدهورت في المملكة بشكل كبير وملحوظ، حيث توالت الاعتقالات لأصحاب الرأي والمفكرين والناشطين وبتهم سطحية لا ترقى لإعدامهم بسببها، وفق منظمات حقوقية.
ويعتبر تقرير أغنيس كالامارد، مقرّرة الأمم المتحدة الخاصة بالإعدام خارج نطاق القضاء، من أبرز التقارير التي سلطت الضوء على واقع الحريات وحقوق الإنسان في السعودية، حيث طالبت بإجراء تحقيق مستقلّ حول وضع المعتقلين وحالات التعذيب التي تحدث في سجون البلاد.
ومنذ استلام ولي العهد محمد بن سلمان السلطة، بدأ بحملات اعتقال لبسط سلطته ونفوذه، طالت العديد من رجال الأعمال بحجة مكافحة الفساد، وشملت عددا من العلماء والكُتاب، معظمهم ضمن “تيار الإصلاح” في المملكة، وبينهم المفكر والداعية سلمان العودة الذي اتهم بعدة تهم ينفيها، أبرزها “التقصير في الدعاء لولي الأمر”.
ولم تتمكن أيّ جهة حتى الآن من الضغط على السعودية من أجل احترام حقوق الإنسان فيها، فقد أظهر تقرير لمنظمة العفو الدولية، “تقصير الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه، عن التزامهم بدعم وحماية المدافعين عن حقوق الإنسان الذين يواجهون تهديدات وهجمات مميتة على نحو متصاعد في بلدان مختلفة من ضمنها السعودية”، كما لم تسهم الضجة التي أثارتها حادثة مقتل الصحفي جمال خاشقجي من تحسين وضع الحريات وحقوق الإنسان في المملكة.