أعاد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن “صفقة القرن”، التي تشرف عليها الإدارة الأمريكية، إلى الواجهة وثيقة سياسية لحل الصراع الفلسطيني الصهيوني، عمرها نحو 23 عاما، وقّعها رئيس السلطة محمود عباس، باعتبار أن بنودها السياسية تتشابه مع ملامح صفقة القرن وصولا إلى تصفية القضية الفلسطينية، والتي ألغت جميع المرجعيات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية واعتبرتها في حكم المنتهية.
وقالت صحيفة “لوتان” السويسرية، في افتتاحية لها، إن خطة السلام المزعوم الأمريكية التي كشف عنها ترامب بعد ثلاث سنوات من الانتظار، والتي كان من المفترض أن تسوي القضية الإسرائيلية الفلسطينية مرة واحدة وإلى الأبد، كانت فضيحة ومهزلة وإهانة للعقل والمنطق.
وأوضحت الافتتاحية أن الخطة الأمريكية تمتاز بالوضوح، لأنها تقدم فلسطين للمنتصر الصهيوني، وأن لها جوانب جيدة إذا تم تطبيقها، إذ إنها توضح أخيرا الوضع على حقيقته في الشرق الأوسط، بعد أكثر من نصف قرن من الغش والمظاهر الخادعة!.
وتكتسب الوثيقة العائدة اليوم بثوب الصفقة الأمريكية أهمية بالغة؛ باعتبار أن الطرف الفلسطيني الذي وقّعها ممثلا في الرئيس عباس، كان يتبوأ موقعا غير رسمي لم يتح له الشروع في تطبيق بنودها، على عكس اليوم الذي يعتلي فيه أبو مازن أعلى موقع رسمي في السلطة والمنظمة يسمح له بتنفيذ بنات أفكاره قبل 24 عاما، خاصة أنه يعتبر أول من رحّب بصفقة القرن أثناء لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض، العام الماضي، حين أشاد بجدّية ترامب في أنه “سيأتي بصفقة العصر للشرق الأوسط”، بنصّ العبارة.
اتفاق سري
في الوقت الذي أعلن فيه الجميع، عربيا وفلسطينيا، رفضه لهذه الصفقة لكونها تنسف الحقوق الفلسطينية مقابل تلبيتها لمتطلبات الاحتلال وتغذية عنصريته، وهو الأمر الذي استدعى عرض وثيقة “عباس-بيلين”، وتناول بنودها بالتحليل الذي يسمح بفهم وتقدير الملامح غير المعلنة في صفقة اليوم، وكيفية مواجهة الإجراءات القائمة.
وقبل عشرين عامًا، وتحديدًا في الثامن عشر من سبتمبر من العام 1998، ظهرت في الأفق مبادرة حملت اسم “بيلين- أبو مازن” للحل النهائي بين الفلسطينيين والصهاينة، وأثارت هذه الوثيقة الكثير من الضجة في حينه، خاصة لأنها تحدثت عن القدس وكأنها “أبو ديس والعيزرية” شرق القدس المحتلة، وكذلك تطرقت إلى قضية اللاجئين وهي القضية الأكثر حساسية بالنسبة لغالبية الفلسطينيين.
وحسم عضو الكنيست الصهيوني عن حزب العمل، يوسي بيلين، الجدل الدائر حول وجود اتفاق سري مع السلطة الفلسطينية يقضي باعتبار قرية أبو ديس عاصمة الدولة الفلسطينية المزمع إقامتها .
وأكد بيلين وجود وثيقة أعدها في العام 1996 بعد مفاوضات مع محمود عباس، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وقتها، حول تصور الوضع الدائم بين الجانبين، أبرز ما ورد فيها موافقة أبو مازن على اعتبار قرية أبو ديس المحاذية للقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية.
يذكر أن السلطة الفلسطينية نفت مرارًا وجود هذه الوثيقة. ولم يتقبل رئيس وزراء العدو الإسرائيلي الجديد آنذاك، شمعون بيريز، ولا الرئيس الراحل ياسر عرفات، هذا الاقتراح بشكل تام، إلا أنهما دعما استخدامه كأساس لمزيد من المفاوضات وللتوصل إلى اتفاق سلام نهائي.
حق العودة
وبحسب الاتفاق “توافق إسرائيل على إقامة دولة فلسطينية في معظم أنحاء الضفة الغربية وقطاع غزة”. وفي المقابل فإن الفلسطينيين سوف يتخلون عن “حق العودة” إلى “فلسطين المحتلة عام 1948” بشكل ملائم، ويشجعون بدلا من ذلك اللاجئين الفلسطينيين على الإقامة في الدولة الفلسطينية الجديدة.
وهو ما يعني إلغاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” واستبدالها لهيئة جديدة، فيما تكون عاصمة الدولة الفلسطينية هي أطراف القدس المحتلة “أبو ديس والعيزرية” والأماكن المقدسة في القدس تحت السيادة الصهيونية حسب وثيقة الفاتيكان.
ويظهر جليًا أنه وبعد عشرين عامًا من ظهور هذه الصيغة للحل بين الفلسطينيين والصهاينة، وإن كانت مجرد مبادرة لم يتم الالتفات لها كثيرًا، إلا أنه وعلى الأرض، يمكن للمراقب للشأن الفلسطيني الصهيوني أن يتلمس أن أفكار هذه المبادرة هي التي تطبق على الأرض، لكن باسم جديد وصيغة خارجية عبر الإدارة الأمريكية وهي “صفقة القرن”.
فالقدس أصبحت خارج الحسابات بعد اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بها عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلادها إليها، لتتبعها بعد ذلك عدة دول، وبالتالي فإن فكرة أن القدس هي العيزرية وأبو ديس باتت أقرب، ثم تقليص مساعدات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين ووقف أعمالها في القدس كمقدمة لإلغائها، ووقف المساعدات الأمريكية لمستشفيات المدينة، يظهر وكأنه كما جاء في وثيقة بيلين أبو مازن.
تتكون هذه الوثيقة من 17 صفحة، تضم ثلاثة ملاحق تتضمن خمس خرائط بيانية تفصيلية بالتعديلات المقترحة، وتحتوي على المبادئ العامة، في كل ما يتعلق بمدينة القدس، واللاجئين، والمستوطنات، ومصادر المياه المشتركة، والمرتكزات القصوى للدولة الفلسطينية، إضافة إلى القضايا العالقة مثل، الأماكن المقدسة، والأمن، والمعابر، والاعتراف المتبادل، وترسيم الحدود، وفترة اختبار النوايا.
إضافة إلى ملاحظة ختامية تنص على “تعليق التوقيع على الوثيقة والتصديق عليها وعلى ملحقاتها، إلى حين الانتهاء من مفاوضات الحلّ النهائي حول التفاصيل الدقيقة”.
إهدار الحقوق
ورد في المقدّمة أن “التنفيذ الكامل لما ورد فيها من بنود وفق المراحل المحددة، يلغي أي تبعة لاحقة تتعلق بالأراضي أو السكان أو اللاجئين أو الممتلكات؛ ويشكل التزامًا من قبل الطرفين بحل دائم يطوي بشكل نهائي نزاعاتهما، وما ترتّب عليها من قرارات عربية أو إقليمية أو دولية”.
ويلاحظ أن هذه الفقرة خلت من تسمية “الأراضي أو السكان أو اللاجئين أو الممتلكات” الواردة في مقدّمة الوثيقة، على أنها حقوق فلسطينية أو حتى اعتبار أنها مجرّد مطالب.
كما ورد في النصّ مصطلح “نزاعاتهما”؛ دلالة على اختزال القضية الفلسطينية باعتبارها مجرّد “نزاع”، والنزاع على الأرض يعني أن الطرفين لهما نفس حق الادعاء فيها، إضافة إلى أن لها بُعدًا قضائيًا، يُمكن تسويته بالحوار بين طرفين يمتلكان “عدالة” ما. وهذا الأمر سبق أن ورد في مقدمة اتفاق أوسلو. مع أهمية الإشارة أيضًا إلى أن الوثيقة خلت من أي ذكر لمصطلح “القضية الفلسطينية”، نتيجة لوصفها على أنها “نزاع”.
وتُلزم الوثيقة، عند تطبيقها، الطرفين بطيّ نزاعاتهما، وما يترتّب عليها أيضًا من قرارات عربية أو إقليمية أو دولية. وهذا يخالف، لأول مرّة، ما نصّت عليه تفاهمات واتفاقات سابقة، ومنها أوسلو، بأن أي تسوية دائمة يجب أن تقوم على أساس قراري مجلس الأمن 242 و338؛ مما يعكس توجّها نحو عدم تدويل القضية الفلسطينية، وجعلها “مسألة ثنائية” بين طرفين، ومما يؤكد ذلك أنه ورد في الفصل الثامن من الوثيقة، الخاص بشبكة العلاقات العامة أن “أفكار تدويل القدس أو إعادة تقسيمها، أصبح غير وارد على الإطلاق بعد هذا الاتفاق”.
وحدّدت الوثيقة فترة اختبار نوايا “تمتد إلى عشرة أعوام في حدها الأدنى، ولا تطول عن عشرين عاما في حدها الأقصى، تترسخ خلالها شبكة العلاقات القائمة على الثقة، والتعاون المشترك، والسلام الدائم بين الشعبين”. وهي مدة كافية للطرف الذي يملك القوة، والإشارة هنا إلى إسرائيل؛ لفرض ما تراه ملائمًا في ظل هذه الظروف. مع العلم أن تأجيل قضايا الوضع النهائي، جعل المفاوضات تشكل غطاءً للاستيطان والتهويد في الضفة الغربية والقدس.