قضية الفنية العسكرية بين الحقيقة والخيال الإعلامي وحقيقة دور الإخوان فيها (1\2)

- ‎فيلن ننسى

منذ انقلاب يوليو 2013م ويحاول الإعلام التابع لسلطة الإمارات والسعودية ومصر تشويه سيرة وتاريخ الإخوان المسلمين، وإظهاره أمام الناس بالتاريخ المليء بالعنف والانقلابات، بل عمدوا لإلصاق كل تهمة وجريمة حدثت إلى الإخوان المسلمين، على الرغم من أنهم لا يملكون دليلا واحدا إلا كتاباتهم الصحفية، وهو تشويه ممنهج تشرف عليه مؤسسات ومراكز بحثية كبيرة.

فلقد كتب جاسم محمد كتابًا بعنوان “داعش والجهاديون الجدد”، حاول فيه إلصاق تهمة “الفنية العسكرية” بالإخوان، معتمدا على محاضر الشرطة المصرية.

كما نجد “ماهر فرغلي” لا يترك مجالا إلا ويحاول ليّ الحقائق على طريقة لا تقربوا الصلاة، ليثبت أن الإخوان لجئوا إلى إنشاء تنظيم ما يعرف بـ”الفنية العسكرية” في محاولة الانقلاب الفاشلة على السادات في أبريل 1974.

ويضيف: “تبين أن أعضاء هذا التنظيم الذي حمل السلاح في وجه الدولة، هم من الإخوان، وبايع عناصره حسن الهضيبي، الذي كان مرشدا للإخوان آنذاك، وذلك على أن ينكروا صلتهم بجماعة الإخوان في حال اكتشاف أمرهم” (وكأن الباحث فرغلي عاد بالزمن ليعرف ما في وجدان هؤلاء وسرهم، خاصة أن هذه الحادثة حدثت في وقت كان بعض الإخوان خرجوا من السجون وما زال البقية داخل السجون، وأن الجماعة لم يكن لها هيكل منتظم ولا تنظيم، بل أكثر من ذلك لو كان للإخوان صلة بالحادث ما كان السادات أفسح المجال للإخوان للعمل وسط المجتمع سنوات، وما كان وجه الدعوة للمرشد الثالث الأستاذ عمر التلمساني، لكن لم يحدث ذلك، ليأتي فرغلي بعد ما يقرب من نصف قرن ليكتشف أن للإخوان صلة بهذه الحادثة خاصة بعد الانقلاب وعدم تمكن الإخوان من الرد عليه، بل هو لم يجرؤ أن يكتب هذه المعلومات وقت مبارك أو الثورة؛ لأن بعض الكتاب كانوا يحترمون عقلية القارئ وليس لإغداف الإمارات أو السعودية بالأموال مثل اليوم).

الغريب أن فرغلي وغيره من كتاب النظام اعتمدوا بعد هذه السنوات على اعترافات وحوارات أجروها مع بعض الطلبة الذين شاركوا في الانقلاب واتهموا الإخوان أنهم كانوا على صلة، على الرغم أن الوثائق والصحف التي صدرت في هذه الفترة نفت تماما صلة من شارك في الانقلاب بالإخوان المسلمين، حيث جاء في وثائق أمريكية أن المسئول المصري [وصف زعيم التفجير «صالح سرية» بأنه قوى البنية والشخصية، من أصل فلسطيني، ولديه جواز سفر عراقي، وعند سؤاله عن انتماء المتورطين لجماعة الإخوان المسلمين أجاب بأنهم لا ينتمون لهم، ولكنهم ينتمون إلى «اليسار الإسلامي الجديد»، وأنهم مجرد منفذين لا يدركون الهدف الفعلي من وراء التفجير]

(أماني عبد الغني: ويكيليكس: 5 برقيات أمريكية عن علاقة «الإخوان» بهجمات «الفنية العسكرية» عام 1974م، المصري اليوم، السبت 27-4-2013م، https://bit.ly/31yYeve)

وحول هذا التشويه الإعلامي المتعمد نحاول أن نتعرف على الحقائق التي يريد أذناب السلطة أن يضفوا عليها الشرعية.

مصر في الزنزانة

كانت كفة السياسة تميل بشكل واضح تجاه عبد الناصر ذلك الرجل الذي استطاع أن يبني لنفسه زعامة إقليمية وشعبية غريبة ، وكان علي جميع الطامحين في الصعود السياسي أن يعلنوا ولاءهم الكامل والتام إلي عبد الناصر شخصيا ، وعرفت مصر وقتها ظاهرة كتابة التقارير وإعلانات الولاء والنفاق إلي أقصي درجة .

ومع إطلاق الرصاص علي عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية وهتافه وقتها ” أنا جمال عبد الناصر ، الذي علمتكم العزة والحرية والكرامة ” كان من الواضح ان ذلك الرجل اختار الطغيان وتحويل جميع الناس إلي عبيد . لقد تعجب الكاتب العظيم عباس محمود العقاد من تلك العبارة وقال لتلاميذه ستعيشون لترون هذا الرجل يحول الشعب إلي عبيد . وبالفعل رحل العقاد عام 1964 ولم يشهد كافة جرائم العهد الناصري التي افتضحت بعد نكسة يونيو 1967 ثم انكشفت تماما بعد وفاة عبد الناصر في سبتمبر عام 1970م.

بصحراء مدينة نصر قبل أن يبتلعها العمران كان هناك حمزة البسيوني والسجن الحربي، أحد أبرز وأشهر رموز القمع السياسي في مصر خلال عهد عبدالناصر.

يقول مصطفى أمين: كان حمزة هو الملك ، وكلاب السجن هم أصحاب السمو الأمراء، ويضيف بعض من ذاقوا ويلات العذاب في عهد عبدالناصر: الطريقة التقليدية للتعذيب كانت التعليق في الشباك أو السقف أو في سارية والضرب بالسياط بعد دهن الجسد كله بالزيت حتى يكون اللسع أكثر إيلاما، بل وصل الأمر إلي حد تعرية الإناث والتهديد ومحاولة الاغتصاب، مثل زينب الغزالي ونساء الإخوان المعتقلين ونساء قضية كمشيش ونساء قضية كرداسة.

لقد سجنت مصر في سجون العسكر والتي كانت تعتبر بحق أسوء السجون – بل قيل أنها كانت أسوء من سجون المحتل الأجنبي – حتى أصبحت وصمة عار في جبين الدولة المصرية.

وهكذا ظلت السجون مكان لمعاقبة المذنبين بل وتعذيبهم وحرمانهم من كافة الحقوق حتى اتسعت الدائرة لتشمل الخصوم السياسيين، وخصوم الرأي.

أصبح السجن الحربي طيلة حكم عبدالناصر مكان موحش مما سمعه الناس عما يحدث فيه، إلا أن هذا السجن خلف وراءه قصص دامية لم يستطع العقل نسيانها ولا نسيان شيطانه الأكبر حمزة البسيوني، وأخرج شباب تبنوا فكر تكفير من عذبوهم تم تطور الحال إلى تكفير كل من شارك في صناعة النظام الطاغية ومن شجعه وفوضه وسكت على ما قام به خلال فترات التعذيب المتعددة.

لقد صور مصطفى أمين حال الدولة من خلال السجن الحربي بقوله: وأنا أستطيع وأنا جالس في زنزانتي أن أعرف حالة الدولة في الخارج، الظلم الذي أراه هنا، الاستبداد، السرقة، الرشوة، استغلال النفوذ، المحسوبية، الرغبة في إذلال الناس، تحكم القوي في الضعيف، الطلاء الخارجي الذي يخفي الخراب الداخلي، النهب والتهليب، كل هذا صورة مصغرة لما يحدث خارج السجن (مصطفى أمين: سنة ثالثة سجن، دار أخبار اليوم، القاهرة، 1976م، صـ173)

فكر التكفير من رحم السجون

تفاقمت ظاهرة الغلو والتطرف والإرهاب في واقعنا المعاصر لتصبح من أكبر التحديات التي تشهدها أمتنا اليوم بعد أن كانت ردة فعل ساذجة.

كانت السجون تشكل مناخ آخر أكثر سوءًا وظلماً، ويبدو أن هذا المناخ كان يتشكل بوعي من سلطات عبد الناصر، فمعلوم أن عبد الناصر اعتمد سياسة تقوم على افتعال التخريب والتفجير كما أقرّ بذلك خالد محيي الدين، أحد الضباط الأحرار في مذكراته، ومنها حادثة المنشية، وبسبب هذه الجرائم المفتعلة تم حلّ جماعة الإخوان ومن ثم اعتقال الكثير من قادتهم وأفرادهم.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل كان هناك التعذيب المنظم الذي يستهدف -فيما يبدو- تحويل السجناء لقنابل موقوتة تؤمن بالعنف وتمارسه بوحشية، ولما يكفِ التعذيب لذلك، تم تدبير وافتعال عدة محاولات للتمرد في السجون من أجل إقامة مجزرة بحق السجناء.

لقد كان تأثير الظلم والتعذيب في السجن كبيرا على السجناء، ويكفي أن نستمع لما يقوله محمد قطب عن بداية مرحلة السجن وكيف غيّرته رغم أنه لم يُسجن طويلاً: “أول تجربة من نوعها كانت من العنف والضراوة بحيث يمكن لي القول إنها غيرت نفسي تغييرا كاملا، كنت أعيش من قبلها في آفاق الأدب والشعر والمشاعر المهمومة، أعاني حيرة عميقة، وكانت تلك الحيرة تشكل أزمة حقيقية في نفسي استغرقت من حياتي عدة سنوات، غير أن الدقائق الأولى منذ دخولي ذلك السجن، والهول الذي يلقاه نزيله، بدّلت ذلك كل التبديل. لقد أحسست إذ ذاك أنني موجود، وأن لي وجودا حقيقيا، وأن الذي في نفسي حقيقة وليس وهْما، وهذه الحقيقة هي السير في طريق الله، والعمل من أجل دعوته، وعرفت حينها حقيقة المؤامرة الضارية ضد الإسلام، وانتهت الحيرة الضالة، ووجدت نفسي على الجادة(محمد المجذوب: علماء ومفكرون عرفتهم، طـ4، دار الشواف، الرياض، 1992م، 280م.).

لقد رأى المتدينون المسلمون داخل السجون من ألوان العذاب ما تقشعر من ذكره الأبدان، وسقط الكثير منهم أمامهم شهداء بسبب التعذيب، دون أن يعبأ بهم القساة الجبارون. في هذا الجو الرهيب ولد الغلو ونبتت فكرة التكفير ووجدت الاستجابة لها.

في سنة 1967م طلب رجال الأمن من جميع الدعاة المعتقلين تأييد رئيس الدولة جمال عبد الناصر فانقسم المعتقلون إلى فئات:

فئة سارعت إلى تأييد الرئيس ونظامه؛ بغية الإفراج عنهم والعودة إلى وظائفهم وزعموا أنهم يتكلمون باسم جميع الدعاة، وهؤلاء كان منهم العملاء، وثبت أنهم طابور خامس داخل الحركة الإسلامية، وثمة نوع آخر ليسوا عملاء بالمعنى وإنما هم رجال سياسة التحقوا بالدعوة بغية الحصول على مغانم كبيرة.

أما جمهور الدعاة المعتقلين فقد لجأوا إلى الصمت ولم يعارضوا أو يؤيدوا باعتبار أنهم في حالة إكراه.

بينما رفضت فئة قليلة من الشباب موقف السلطة وأعلنت كفر رئيس الدولة ونظامه، بل اعتبروا الذين أيدوا السلطة من إخوانهم مرتدين عن الإسلام ومن لم يكفرهم فهو كافر، والمجتمع بأفراده كفار لأنهم موالون للحكام وبالتالي لا ينفعهم صوم ولا صلاة. وكان إمام هذه الفئة ومهندس أفكارهم الشيخ علي إسماعيل قبل أن يتبرأ منها لاحقا، ويقود زمامها شكري مصطفى(جماعة التكفير والهجرة: الموسوعة الميسرة ( 1/336 )، 1/1/2002م، https://bit.ly/2S3d5L3)