أوطان الناس قطعٌ من أكبادهم، وحبها أمرٌ فطرى جُبلوا عليه، وهكذا جميع المخلوقات؛ فالطير والأنعام والأسماك وغيرها، سرعان ما تعود إلى بلادها التى تركتها من أجل السعى على الرزق، مهتدية بفطرتها إلى أوطانها التى نشأت على أرضها وترعرعت بين جنباتها.
والوطن هو مهد الصبا، ومدرج الخطى، ومرتع الطفولة، وملجأ الكهولة، وموطن الآباء والأجداد، والأبناء والأحفاد.. وهو يحقق معنى الاستخلاف فى الأرض (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا…) [هود:61].
ويروى أن النبى ﷺ ودَّع مكة، وطنه، حين الهجرة، وداع الآسف على فراقها وترْكِها.. عن عبد الله بن عباس -رضى الله عنهما- عن النبى ﷺ: «ما أطيبك من بلد، وأحبك إلىَّ، ولولا أن قومى أخرجونى منك ما سكنتُ غيرك» [رواه الترمذى]..
ولما قدم أصيل الغفارى إلى المدينة بعد الهجرة، دخل على أم المؤمنين عائشة -رضى الله عنها- قبل أن يُفرض الحجاب، فقالت له: يا أصيل كيف عهدتَ مكة؟ قال: عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها. قالت: أقم حتى يأتيك النبى ﷺ. فلم يلبث أن دخـل النبى ﷺ فقال: له: «يا أصيل كيف عهدتَ مكة؟» قال: والله عهدتها قد أخصب جنابها وابيضت بطحاؤها، وأغدق اذخرها، وأسلت ثمامها، وأمش سلمها. فاغرورقت عيناه الشريفتان وقال: «حسبك ياأصيل لا تُحزنّا»، وفى رواية: «ويهًا يا أصيل، دع القلوب تقر».
ويؤخذ من هذين الحديثين أن حبَّ الوطن يكون فى دم كل إنسان، وهـو يعدل -بل يزيد- على حب الأولاد، والأهل، والعشيرة، وهو ما جعل العرب -كما يقول الجاحظ-: «كانت إذا غزتْ أو سافرتْ حملتْ معها من تربة بلدها رملاً وعفرًا تستنشقه».
وهذا الحنين للأوطان، هو ما جعل بلالاً الحبشى يتمنى الموت على أرض مكة حين مرض بعدما قدم المدينة -لوخامة جوها- فقال وهو على فراش المرض: (ألا ليت شعرى هل أبيتنّ ليلة… بوادٍ وحولى إذخر وجليل؟ وهل أردنَّ يومًا مياه مجنةٍ… وهل يبدون لى شامة وطفيل؟).
ومن هنا يؤكد علماء الإسلام:
• أن حب الأوطان من الإيمان، ولا يتخلى عن وطنه إلا منافق شديد النفاق، جاحد لا يستحق العيش على أرضه. ومن الإيمان معرفة أفضال الوطن وضرورة رد الجميل (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [الرحمن: 60].
• أن خدمة الوطن، ورفعته، والتصدى لما يضره والدفاع عنه وقت الحاجة -فرضٌ لا جدال فيه.
• أن الوطن بالنسبة للمسلم وطنان: وطن أصغر، وهو الأرض التى وُلد فيها ونشأ وتربى عليها، وهى ذات حدود جغرافية معروفة، أما الوطن الأكبر فهو كل بلد يُذكر فيه اسمُ الله، كما قال الشاعر: (وأينما ذُكر اسمُ الله فى بلد… عددتُ أرجاءه من صُلب أوطانى).
• أن حدود الوطنية الإسلامية هى العقيدة وليست الحدود الجغرافية التى صنعها المستعمر، وإذا كان البعض يعلى من قيمة الوطنية، فإن العقيدة تستوعب جميع هذه القيم، فبداخلها وطنية الحنين، ووطنية الحرية والعزة، ووطنية المجتمع التى تقوِّى الرابطة بين أفراد القطر الواحد.
• أن الإسلام لا يعترف بقبلية أو عصبية، بل يعتبرهما جاهلية، وهو يعلى -فى الوقت ذاته- من قيم الحرية والعدل والمساواة، فماذا لو تعارضت هذه القيم مع أعراف هذا الوطن أو تلك القبيلة؟ هنا يبحث المسلم عن مكان آمن يمارس فيه شعائره بدلاً من احتمال وقوعه في دائرة الكفر والنفاق (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) [العنكبوت: 56].. وهذا ما جعل «سلمان» يفتخر بإسلامه الذى حطم القيود، وأزال الفروق، وجعل العرب كالفرس، والفرس كالأعاجم، سواء بسواء.