الإقليم على مفترق طرق، المقصود بالإقليم منطقة غرب آسيا الممتدة من شواطئ البحر الأبيض المتوسط غرباً إلى شواطئ بحر قزوين شرقاً. المفترقُ هو نقطة تقاطع صراعاتٍ تعصف بدول الإقليم وتجعلها في وضع العاجز عن اتخاذ قرارٍ ما يؤدي إلى تطويل مرحلة الحوار بالنار، المحتدم إلى زمن يصعب تحديد نهايته.
في لبنان، بدأت مرحلة الحوار بالنار مع انحسار الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982، لكن ما زالت مفاعيلها تتجدد، إذ تخلّلها اغتيال رئيسين منتخبين للجمهورية (بشير الجميل ورينيه معوّض) ورئيس حكومة سابق (رفيق الحريري) ما أورث اضطراباً سياسياً وأمنياً تعذّر معه انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً، إلاّ بعد انعقاد قمة في الدوحة (قطر) أنهت سبعة أشهر من الفراغ الرئاسي، وأورثت بعد ست سنوات حالاً أخرى من الاضطراب السياسي والأمني دام نحو ثلاث سنوات، إلى أن تمّ انتخاب الرئيس الحالي العماد ميشال عون. وها هي البلاد ترتع الآن في حال من الاضطراب السياسي والاجتماعي والأمني المقرون بتوترٍ شديد حيال ثلاثة تحدياتٍ: ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة واحتمال تطور النزاع إلى حرب، وتعاظم تداعيات الانهيار الاقتصادي والاجتماعي واستفحال الضائقة المعيشية، ومخاطر الفراغ الرئاسي الناجم عن عدم انتخاب خلفٍ للرئيس ميشال عون قبل 31 تشرين الأول/أكتوبر المقبل.
في سوريا، يتوسع الحوار بالنار في شرق البلاد وغربها وشمالها الشرقي، بين ايران وروسيا من جهة، والولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا من جهة أخرى، ما يعرقل توصّل الحكومة المركزية في دمشق إلى تسويةٍ للنزاع مع أطراف المعارضة السورية الموالية لتركيا، ومع قوات سوريا الديمقراطية «قسد» (الكردية) المتحالفة مع الولايات المتحدة. في العراق، يستشري اضطراب سياسي وأمني وتظاهرات واعتصامات، عطّلت الحوار بين الأطراف السياسية المتصارعة، وحالت دون انتخاب رئيس جديد للبلاد، وحكومة جديدة تخلف حكومة مصطفى الكاظمي ما قد يتطور إلى صراعٍ أهلي مديد. في إيران، تبدي القيادة السياسية استقواءً حيال الولايات المتحدة، يوحي بعدم استعجالها القبول بالعرض الأوروبي لإحياء الاتفاق النووي، الذي خرجت منه الولايات المتحدة سنة 2018 في ما ترغب إدارة الرئيس بايدن في العودة إليه مقروناً بإجراءات لطمأنة «إسرائيل» أمنياً، بينما الجدال في المفاوضات ما زال محتدماً، ومعه تتضاءل فرص التوصّل إلى تسويةٍ قبل الانتخابات النصفية الأمريكية في مطلع شهر تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.
في «إسرائيل»، يعيش الكيان، حكومةً وأحزاباً وجمهوراً، مأزقاً سياسياً وأمنياً مقلقاً فترة انتخاباتٍ هي الخامسة خلال أربع سنوات، تتخللها عمليات للمقاومة الفلسطينية الناشطة في مجمل فلسطين التاريخية، وتهديدات من المقاومة اللبنانية (حزب الله) للمعتدين على ثروة لبنان النفطية والغازية. إلى ذلك، تحتدم صراعات داخلية في الانتخابات وتتوالى استطلاعات للرأي ترجّح كفّة بنيامين نتنياهو وحلفائه في مقابل خصومه المحتشدين في حكومة يائير لابيد الإئتلافية المتقلقلة، ما قد يمكّنه من تأليف حكومة موسّعة لمواجهة المخاطر المتعددة المحيطة بالكيان. في مصر، يواجه نظام الرئيس عبدالفتاح السيسي تحدياتٍ شتى أبرزها اثنان: الركود الاقتصادي المتفاقم وتعثّر العلاقات السياسية مع الكيان الصهيوني، نتيجةَ عدم وفاء حكومته بوعودها المتعلّقة بإطلاق سراح قياديين بارزين في حركة الجهاد الإسلامي، ما أدى إلى تعكّر علاقات مصر مع حركات المقاومة، ولاسيما مع «حماس» التي تدير قطاع غزة. وكانت القاهرة كما «حماس» تعوّلان على إطلاق سراح القياديين الجهاديين كشرط للتهدئة وتفادياً لاضطرار كل حركات المقاومة في القطاع إلى مشاركة «الجهاد الإسلامي» في معركته مع الكيان الصهيوني، الأمر الذي يشكّل إحراجاً كبيراً لمصر التي لا تستطيع أن تقف مكتوفة اليدين إزاء عودة «إسرائيل» إلى تدمير البنى التحتية في القطاع التي تتولى شركات مصرية إعادة بنائها. في تركيا، يبدو الرئيس رجب طيب أردوغان حريصاً على متابعة سياسة تصفير المشاكل مع دول الجوار كافةً، وذلك لتعزيز حظوظه في معركة الانتخابات المقرر إجراؤها في شهر حزيران/يونيو 2023. فهو وإن كان راغباً في تدوير زوايا الخلافات مع الحكومة المركزية في دمشق، وفي مقدمها إصرارها على انسحاب القوات التركية من أراضٍ سورية تحتلها في شمال البلاد وغربها، إلاّ أنه حريص أيضاً على عدم إغضاب حليفته الأطلسية الولايات المتحدة التي تحتل مواقع استراتيجية في شرق سوريا وشمالها الشرقي، وتقوم بالسطو على مواردها النفطية والغازيّة، وتسليم عائداتها إلى حلفائها من المتمردين الأكراد، الذين يقاومون القوات التركية المحتلة، كما يستفزون دمشق بإقامة وحدات للحكم الذاتي بمعزل عنها، بل ربما في تحدٍ سافر لها.
من وقائع العرض البانورامي المختصر أعلاه يمكن استخلاص ثلاث حقائق ساطعة:
الأولى، أن ثمة صراعات محتدمة ومتصاعدة في جميع دول غرب آسيا، تشارك فيها بدرجاتٍ متفاوتة قوى داخلية، وأخرى خارجية، وتستبطن مصالح وأدواراً استراتيجية للدول المتصارعة، ولا تتبدى مؤشرات لإمكانية احتوائها في مستقبل قريب، بل على العكس، يوحي احتدامها بالاستمرار والتصعيد في زمن مديد.
الثانية، أنه لا حوار جدّي بين الدول المتصارعة في غرب آسيا، ولا بينها وبين أطرافٍ في الخارج تشارك في الصراع إلى جانب بعض أطراف الداخل، أو في وجه بعضها الآخر، ذلك كله يؤدي إلى نشوء حال من اللاقرار بين أطراف الصراع في الداخل، كما بينهم وبين الأطراف الخارجيين المشاركين في الصراع لتعزيز مصالحهم أو مصالح حلفائهم.
الثالثة، ان احتدام الصراعات بين دول غرب آسيا قد يتطور بفعل خطأ غير مقصود، أو توترات شديدة خارجة عن السيطرة، أو تشابك مصالح اللاعبين المتصارعين واشتباكهم، إلى انزلاق بعضهم إلى حربٍ سافرة ضد بعضهم الآخر.
احتمال الحرب هذا وارد أكثر ما يكون بين لبنان و»إسرائيل»، ولاسيما إذا ما قرر العدو الصهيوني المباشرة في استخراج الغاز من حقل كاريش الكائن في منطقةٍ متنازعٍ عليها، ما سيحمل حزب الله على تنفيذ تهديده بقصف منصّات النفط والغاز الإسرائيلية العاملة في المنطقة، وربما توسيع نطاق القصف ليشمل منصّات أخرى مقابل الساحل الفلسطيني المحتل. ثمة احتمال آخر باندلاع اشتباك بين القوات الامريكية المتمركزة في شرق سوريا (موقع التنف) وشمالها الشرقي (في محافظتي الحسكة والرقة) وتنظيمات مدعومة من الحرس الثوري الإيراني، متمركزة في مواقع متداخلة مع مواقع للجيش السوري، وأخرى متداخلة مع مواقع للحشد الشعبي العراقي ما يؤدي، ربما، إلى تطورها إلى حرب إقليمية. هذان الاحتمالان وارد تحققهما قبل الانتخابات في كلٍّ من «إسرائيل» والولايات المتحدة في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر المقبل أو بعده. غير أن الاحتمال الأرجح، في تقديري، هو استمرار مرحلة الحوار بالنار واللاقرار بالحرب قبل الانتخابات الإسرائيلية والأمريكية. أما إذا ركبت «إسرائيل» رأسها وباشرت باستخراج الغاز من حقل كاريش فسرعان ما ستكتشف أن المقاومة ستبادر دونما تردد إلى تدمير منصّاتها في كاريش وما بعد بعد كاريش.
…………
كاتب لبناني
نقلا عن "القدس العربي"