نشرت مجلة "فورين بوليسي" تقريرا سلطت خلاله الضوء على سياسات عبدالفتاح السيسي الاقتصادية ، مؤكدة أن سوء إدارة السيسي أغرق البلاد في أزمة، وباتت هناك حاجة إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي لإنقاذها.
وبحسب التقرير، كان النفوذ السياسي لجمهورية الضباط، النظام السياسي الذي يرعاه الجيش والذي يحكم مصر منذ عام 1952، على مدى عقود، مستقرا بشكل لا يتزعزع، لقد نجا النفوذ السياسي للضباط من اختبار الزمن بسبب قدرتهم على العمل في الظلال السياسية للدولة لعقود، وقد منحت هزيمة ثورة مصر عام 2011 الضباط فرصة لتولي دور أكثر وضوحا في حكم البلاد وممارسة السلطة.
وقال التقرير إنه "من المفارقات أن حكم عبد الفتاح السيسي، وهو رجل عسكري، أصبح التهديد الأكثر إلحاحا لحكم الضباط المستمر منذ 70 عاما، إنه يقوض العقد الاجتماعي الذي صاغه الضباط في عام 1952 والذي يمكن القول إنه كان حجر الزاوية للاستقرار السياسي في البلاد، وقد أسس هذا العقد الاجتماعي تفاهما غير مكتوب تسامحت فيه شرائح كبيرة من المجتمع مع تجاوزات النظام للحقوق السياسية مقابل فوائد اقتصادية واجتماعية ترعاها الدولة، وعلى جبهة مختلفة، يستبعد السيسي أيضا البيروقراطيين المدنيين القدامى، مما يقوض التزامهم بالوضع السياسي الراهن وقد فعل الكثير".
قمع عسكري
وأضاف التقرير أن السيسي وحلفاءه قد ترأسوا قمعا بحجم لم يسبق له مثيل منذ 1960s ، مما حول مصر ببطء إلى بلد يكون فيه الصوت الوحيد في الساحة السياسية هو صوت الحاكم، تميز حكمه بآلاف السجناء السياسيين ومئات ضحايا التعذيب وعدد لا يحصى من الوفيات داخل السجونـ هذا بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية التي يتم فيها اختبار رؤية السيسي الاقتصادية وجوديا.
وأوضح التقرير أنه منذ عام 2013، عندما انقلب الجيش على حكومة الرئيس محمد مرسي، سيطر السيسي وحلفاؤه على أجهزة الدولة المصرية، بعد أن أصبح رئيسا في عام 2014، أقر السيسي مجموعة من القوانين المثيرة للجدل التي حولت القضاء فعليا إلى أداة للحكومة، وبالتعاون مع حلفائه في البرلمان، عدل السيسي الدستور لإلغاء حدود الفترة الرئاسية، مما سمح له بالبقاء في السلطة حتى عام 2030.
وأشار التقرير إلى أن السيسي قوض المعارضة العلمانية من خلال استمالة بعض عناصرها وتغليفها داخل المنظمات السياسية التي تسيطر عليها الأجهزة الأمنية، وسجن النشطاء السياسيون الذين حاولوا العمل خارج حدود هذه المنظمات، وعلى الرغم من قرارات العفو الرئاسية الأخيرة التي جاءت استجابة للضغوط الدولية، لا يزال العديد من هؤلاء النشطاء وراء القضبان، بالإضافة إلى سيطرته على القضاء والمعارضة، وسع السيسي وقطاع الأمن سيطرتهما على وسائل الإعلام التي كانت مستقلة ذات يوم، وكان اتساع نطاق قمع السيسي هائلا، لقد همش كل من حاول تقديم نفسه كبديل لحكمه من خلال السجن وغيره من الأعمال الانتقامية ذات الدوافع السياسية، كما عانى مجتمع الأعمال من غضب السيسي. وقد تعرض رجال الأعمال لضغوط للتبرع لصندوق تحيا مصر، الذي ينظر إليه على نطاق واسع على أنه أداة للنظام لابتزاز المصالح التجارية لتمويل مشاريع السيسي السياسية.
تدخل الجيش
ونوه التقرير بأن الشركات المملوكة للجيش ووكلائه قد زاحمت القطاع الخاص في مجالات لا حصر لها، لا سيما في العقارات والصناعات الثقيلة مثل الحديد والصلب والأسمنت، كانت مشاركة الجيش المتزايدة في الاقتصاد كارثية على الوضع الاقتصادي في مصر، انشغل السيسي وحلفاؤه بخدمة الاقتصاد العسكري ومشاريعه الضخمة الكبيرة، وأدى غياب المساءلة والسياسات التشاركية إلى قرارات اقتصادية سيئة.
ولفت التقرير إلى أنه يمكن القول إن "برنامج الإصلاح الاقتصادي للبلاد الذي بدأ باتفاقها مع صندوق النقد الدولي في عام 2016 كان ضروريا، ومع ذلك فإن الفائض الكبير في الميزانية العامة الناتج عن خفض الدعم لم يخصص للتعليم أو الصحة ، وكلاهما يعاني من نقص التمويل بشكل يرثى له، وبدلا من ذلك، استخدم الفائض لخدمة الديون. حصل السيسي على قروض كبيرة لتمويل مشاريعه البارزة والمدن الجديدة بناطحات السحاب التي لم تسفر عن أي فوائد اقتصادية وقد ينتهي بها الأمر إلى مدن أشباح".
وعلى الرغم من أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي قد دعوا سلطات الانقلاب مرارا وتكرارا إلى عدم إهدار احتياطيات العملات الأجنبية على المشاريع العملاقة، إلا أن السيسي رفض الاستماع، وقد مضى قدما في مشاريع مثل بناء عاصمة جديدة وقطار القاهرة الأحادي، وغض الطرف عن احتياطيات الدولار المتضائلة، وكانت نتائج هذه السياسات كارثية، كما يتضح من الميزان التجاري، والعجز في المدفوعات، والفجوة المالية الضخمة التي سوف تتطلب المزيد من الاقتراض.
وتابع التقرير "كان السيسي يعتمد على الأموال الساخنة من سندات الخزانة المصرية ذات العائد المرتفع وكذلك أسواق الدين الدولية للحفاظ على استقرار سعر صرف الجنيه المصري بشكل مصطنع، وثبت أن هذه الممارسة غير مستدامة، دفع ظهور جائحة COVID-19 والغزو الروسي لأوكرانيا 22 مليار دولار من أذون الخزانة المملوكة للأجانب إلى خارج البلاد في غضون ستة أشهر في عام 2022، مما أدى إلى تفاقم الوضع الاقتصادي غير المستقر بالفعل، وردا على ذلك، خفضت الحكومة قيمة العملة بنحو 50 في المئة في محاولة لمنع تكرار الأزمة الاقتصادية في لبنان".
وأردف "لكن شبح الوضع اللبناني لا يزال يلوح في الأفق، الفرق هو أن مصر بلد به عدد سكان أكبر بكثير. الملايين من الناس يختنقون تحت خط الفقر بينما يعيشون أيضا تحت القمع السياسي الشديد والعنيف في كثير من الأحيان. وهذا الوضع المتدهور بسرعة لا يمكن أن يستمر، ومن شأن انهيار مالي على الطريقة اللبنانية في مصر أن يؤدي إلى اضطرابات سياسية في جميع أنحاء الشرق الأوسط".
وأكمل "وسط أزمة دولية ومع تركيز الكثير من العالم على حرب روسيا في أوكرانيا، لا يريد المجتمع الدولي أن يرى مصر تدخل نفقا مظلما. يجب أن تبدأ أي خطة واقعية لإنقاذ الوضع بمحاسبة السيسي على الأزمة الاقتصادية والسياسية الحالية، وقد يفتح ذلك الباب أمام حلول خارج رؤية السيسي المحدودة للاقتصاد والحوكمة والإدارات، وهي رؤية لطالما انتقدها العديد من المحللين السياسيين".
وأكد التقرير أنه " يجب على جميع المؤسسات والحركات والأحزاب السياسية المصرية تذكير السيسي بالالتزام الذي قبله عندما تولى السلطة، تمثيل وقيادة تحالف كبير من أصحاب المصلحة الوطنيين، بما في ذلك المؤسسات المستقلة مثل القضاء، الذي قوضه لاحقا، الأحزاب الديمقراطية المدنية؛ الزعماء الدينيون؛ ونخبة رجال الأعمال، وهذا التحالف الكبير، فضلا عن شعبيته في وقت تنصيبه والحرب ضد الإرهاب في شبه جزيرة سيناء، دفع العديد من المصريين إلى غض الطرف عن قمع السيسي خلال معظم العقد الماضي، والآن بعد أن أعلن الجيش نهاية مظفرة لعملياته في شبه الجزيرة، لم يعد من الممكن استخدام هذه الذرائع لإضفاء الشرعية على القمع السياسي للسيسي وسياساته الاقتصادية غير الحكيمة".
غضب شعبي
وأضاف التقرير أن الوضع الاقتصادي المتردي يؤجج الغضب والسخط العام في مصر، حيث يبلغ متوسط الأجر الشهري حوالي 150 دولارا، وهناك حاجة ملحة إلى الإصلاح الاقتصادي والسياسي على حد سواء، لا يمكن أن يحدث أحدهما بدون الآخر، وتوصيات صندوق النقد الدولي الأخيرة توفر مكانا للبدء، مضيفا أن تعزيز الحوكمة والشفافية أمر يمكن البناء عليه في المستقبل. وتشمل الخطوات المهمة الأخرى توحيد الموازنة والإنفاق الحكومي لزيادة الشفافية وإلغاء الإنفاق خارج الميزانية العامة للدولة، بالإضافة إلى ذلك، يجب على المؤسسات العسكرية التركيز حصريا على الدفاع الوطني ووقف المشاركة في القطاعات الاقتصادية المدنية، فالجيش يحتكر توزيع الأراضي، وتشارك الشركات العسكرية في الصناعات الثقيلة وكذلك في قطاعات الإنتاج الزراعي والغذائي، تختلف تقديرات حصة مشاركة الجيش في الاقتصاد المصري بشكل كبير بسبب نقص البيانات، التي تتراوح بين 5 في المئة و40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وشدد التقرير على أنه ينبغي بيع الشركات والأصول المملوكة للجيش في هذه القطاعات إلى القطاع الخاص أو إدراجها في سوق الأوراق المالية. كما أوصى صندوق النقد الدولي بترشيد الإنفاق الحكومي ووقف جميع المشاريع العملاقة الجديدة والطموحة وسط النقص الحالي في الاحتياطي الأجنبي في البلاد، ومن شأن زيادة دور القطاع الخاص أن تساعد في إفساح المجال أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تشتد الحاجة إليها، والتي تعمل كبديل سليم للاقتراض الأجنبي المكثف لسد النقص في احتياطيات الدولار ومنع العملة المحلية من الانخفاض أكثر. ولكي يحدث ذلك، ينبغي إجراء إصلاحات منهجية وقانونية لضمان سيادة القانون ، والتي بدونها ستظل الثقة في الاقتصاد المصري منخفضة.
وواصل التقرير "على المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، فضلا عن الحكومات الحليفة في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى، أن تنصح السيسي بإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية وإجراء مناقشات بناءة مع معايير واضحة حول الإصلاحات اللازمة لتسهيل خروج الجيش من الأنشطة الاقتصادية، من المهم مواصلة الضغط عندما يتعلق الأمر بمسائل حقوق الإنسان في البلاد، إن السماح بإجراء مداولات وحوارات عامة هادفة وشاملة حول السياسات العامة الاجتماعية والاقتصادية أمر بالغ الأهمية".
رفض الإصلاح
وأكمل " رفض نظام السيسي إجراء أي إصلاحات اقتصادية وسياسية جوهرية، بينما لا يزال يتلقى تمويلا دوليا من أسواق الديون والدول والمؤسسات الحليفة، لن يؤدي إلا إلى قشرة الاستقرار، في أحسن الأحوال، وسوف تعود الأزمة إلى الظهور مرارا وتكرارا إذا لم تتم معالجة جذورها، وسيكون من الأصعب بكثير إصلاح هذه الظروف بعد سنوات، أو حتى عقود وينبغي أن تكون الإصلاحات السياسية أولوية أيضا، يجب أن يكون الحوار السياسي مفتوحا للأحزاب والحركات التي عانت كثيرا في ظل القمع القمعي في العقد الماضي، وينبغي منح موظفي الخدمة المدنية التكنوقراط ذوي الخبرة الفرصة لشغل مناصب قيادية للمساعدة في صياغة خارطة الطريق السياسية والاقتصادية في الفترة المقبلة".
وقال التقرير "قد تكون الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها العام المقبل بداية جديدة لمصر للتحرك ببطء نحو التحول الديمقراطي، يجب على حلفاء السيسي، بما في ذلك دول الخليج والإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، حثه على عدم الترشح مرة أخرى في الانتخابات المقبلة واعتماد الإصلاحات السياسية والاقتصادية اللازمة".
وأشار التقرير إلى أن حث السيسي على عدم الترشح يمكن أن يسمح بظهور قيادة منتخبة ديمقراطيا أكثر مصداقية وخضوعا للمساءلة، وهذا يتطلب انفتاحا سياسيا في الفضاء العام، يقوم على إطلاق سراح السجناء السياسيين، ووقف الحملات القمعية، وإنهاء تدخل قطاع الأمن في وسائل الإعلام وشؤون الأحزاب السياسية، وعلى السيسي وحلفائه المتبقين من قادة الجيش التفكير في مصر، والمنطقة، التي سيتركونها وراءهم إذا انهار الاقتصاد المصري بشكل كارثي، وينبغي لهم أيضا أن ينظروا في التركة التي سيتركونها وراءهم إذا قرروا السماح بانتقال ديمقراطي حقيقي وانتخابات نزيهة، الأمر الذي من شأنه أن يفتح الباب أمام استقرار سياسي واقتصادي حقيقي في البلد والمنطقة.
واختتم التقرير " إن الانتقال الاقتصادي والسياسي البطيء، بدعم من الجيش والدولة إلى جانب الضمانات الدولية والإقليمية، يمكن أن يكون بداية لمستقبل سياسي واقتصادي مستقر وعادل لمصر، بل إن مثالها يمكن أن يمهد الطريق لمزيد من التغيير الديمقراطي والاستقرار في المنطقة ككل، مما يساعد على دفع الدول العربية الأخرى إلى ما وراء العنف والاضطرابات التي سادت في العقود الأخيرة".
https://foreignpolicy.com/2023/02/07/egypt-needs-democracy-to-fix-its-economy/