وسط أزمة مالية خانقة وعجز مزمن في العملة الصعبة، تمضي حكومة المنقلب السفيه عبد الفتاح السيسي بلا تردد في طرح أصول مصر الاستراتيجية للبيع، بدءاً من الشركات والموانئ إلى المطارات والفنادق والمستشفيات. لكن المفارقة ليست فقط في البيع، بل في القبول بعروض بخسة، بعضها أقل من القيمة السوقية بكثير، من صناديق عربية ـ أغلبها خليجية ـ تتعامل مع الدولة المصرية بتعالي واستخفاف صارخ.
صحيفة "الشروق" المقربة من الانقلاب ، كشفت مؤخراً عن تراجع الحكومة عن طرح عدد من الشركات ضمن برنامج الطروحات، واستبدالها بالمطارات، بسبب العروض "غير المرضية" من صناديق عربية. وهذه ليست المرة الأولى، إذ تكرر الأمر سابقاً في مفاوضات شراء "بنك القاهرة"، وبيع "المصرف المتحد"، واستحواذات على شركات أدوية وفنادق.
فلماذا تصرّ الحكومة على البيع وهي تعلم أن الأصول تُعرض بأثمان بخسة؟ ولماذا تقبل هذا الإذلال الاقتصادي الخليجي، في وقت يصمت فيه الجيش المصري الذي أطاح بالرئيس الراحل محمد مرسي، بحجة أنه يريد بيع قناة السويس والأهرامات لقطر؟
أين الجيش الذي "حمى مصر من البيع"؟
عندما أنقلب الجيش بقيادة وزير الدفاع الخائن السيسى على الرئيس الشهيد الدكتور محمد مرسي أول رئيس مدنى بتاريخ البلاد في 2013، روّج الإعلام والدولة العميقة أن الرئيس المنتخب يريد "بيع قناة السويس لقطر"، وتسليم سيناء لـ"أهالي غزة"، وأنه كان على وشك "التفريط في أهرامات مصر". اليوم، تُباع الأراضي والمطارات والموانئ والفنادق لمستثمرين خليجيين وأجانب بعقود تصل لـ50 عاماً، أو حتى دون مقابل كما في صفقة المنطقة الصناعية الروسية بقناة السويس.
ومع ذلك، لا نسمع صوتاً من المؤسسة العسكرية، التي لطالما ادّعت أن تدخلها في السياسة لحماية "الأمن القومي" و"الثروات الوطنية". بل إن بعض الأصول المعروضة ـ كالفنادق والمشروعات السياحية ـ تتبع جهاز مشروعات الخدمة الوطنية نفسه، التابع للجيش، وتم تسليم إدارتها بالفعل لشركات إماراتية.
إذلال اقتصادي خليجي.. و"مخطط استحواذ ناعم"
يشير الخبير الاقتصادي الدكتور أحمد البهائي إلى أن ما يحدث ليس فقط نتيجة لضعف الحكومة، بل قد يكون جزءاً من "مخطط لتصفية الدولة المصرية"، وتحويلها إلى كيان تتحكم به الرأسمالية الاحتكارية الأجنبية والخليجية. ويضيف أن صناديق الخليج لا تسعى إلى تطوير الاقتصاد المصري، بل إلى الاستحواذ على أراضٍ ومرافق استراتيجية.
ففي صفقة "رأس الحكمة"، حصلت الإمارات على 170 مليون متر مربع، في عقد طويل الأجل يكاد يُخرج المنطقة من السيادة المصرية. كما تملك صناديق إماراتية وسعودية حالياً حصصاً ضخمة في أراضي القاهرة والسواحل، إضافة إلى إدارة عدد متزايد من الفنادق والمستشفيات والمرافق.
أين المعارضة اليسارية والعلمانية؟
المعارضة اليسارية والعلمانية التي وقفت بقوة ضد مرسي، بحجة أنه "يؤخون الدولة" و"يفرّط في السيادة"، تقف الآن في صمت مطبق. لم نسمع من أغلب رموزها أي إدانة لبيع أصول الدولة أو إذلال مصر على يد مستثمرين عرب وأجانب.
فأين هي الأصوات التي كانت تصرخ "مصر مش للبيع"؟ ولماذا لم تعد صفقة مطار أو مصنع أو ميناء تثير فيهم الغضب؟ وهل أصبحوا شهود زور على تفكيك الدولة التي ادعوا يوماً أنهم يدافعون عنها؟
بيع الأصول.. مطلب صندوق النقد وسلاح السيسي
برنامج الطروحات ليس خياراً اقتصادياً فقط، بل التزاماً مفروضاً من صندوق النقد الدولي مقابل القروض المتتالية، والتي بلغت في عهد السيسي أكثر من 160 مليار دولار من الدين الخارجي. ومع ضغط الصندوق لتقليص دور الدولة في الاقتصاد، واشتراطه التخارج من شركات القطاع العام لصرف الشريحة الجديدة من قرضه البالغ 8 مليارات دولار، تسارع الحكومة في البيع بأي ثمن.
الدكتورة علياء المهدي، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، حذّرت من بيع الأصول "بالبخس"، وطالبت بشروط واضحة تحمي مصالح الشعب. لكن يبدو أن الحكومة غير مهتمة بتلك الشروط، بل تفضل الصفقات السريعة، حتى لو كانت مهينة.
الإمارات والسعودية تبتلعان الاقتصاد المصري
الاستثمارات الخليجية لم تعد فقط شراء أسهم، بل سيطرة كاملة على قطاعات حيوية. الإمارات، عبر موانئ أبوظبي، وقّعت اتفاقات لإدارة مناطق صناعية بمحيط قناة السويس لمدة 50 عاماً بنسبة أرباح مصرية ضعيفة. وفي السياحة، تدير شركة "جيوان" الإماراتية عشرات الفنادق الحكومية، بعضها تابع للجيش.
وفي نيسان/ أبريل الماضي، قالت صحيفة "البورصة" إن صناديق خليجية تتفاوض لشراء مستشفيات حكومية، فيما تعتزم مجموعة كويتية تنفيذ صفقة سياحية هي الأكبر بتاريخ مصر.
هل تباع مصر "قطعة قطعة"؟
كل الدلائل تشير إلى أن ما يجري ليس مجرد "خصخصة" عابرة، بل مشروع ممنهج لابتلاع الدولة المصرية. شركات، أراضٍ، مطارات، موانئ، فنادق، مصانع، وحتى المستشفيات، تُعرض للبيع دون رقابة شعبية أو إعلامية حرة.
ورغم الحديث الرسمي عن أن بعض الصفقات "ليست بيعاً بل تطويراً"، فإن العقود طويلة الأجل، وغياب الشفافية، والصمت السياسي، يكشف أن ما يجري هو فقدان تدريجي للسيادة.
في النهاية.. من يحاسب من؟
بين تفريط حكومي، واستغلال خليجي، وصمت عسكري، وتواطؤ معارضة، يقف الشعب المصري وحيداً، يتابع من بعيد كيف تُفرط دولته في أعز ما تملك، بلا شروط ولا كرامة.
والسؤال الذي سيُطرح غداً في كتب التاريخ:
هل باع السيسي مصر طواعية؟ أم أُجبر على البيع، ثم قبل بالإذلال؟
والأهم: هل سيحاسبه أحد؟