في الوقت الذي تسعى فيه مصر رسميًا لتقديم نفسها كوجهة تعليمية إقليمية، يعيش مئات الطلاب السوريين مأساة إنسانية وتعليمية صامتة، بعد أن جرى حرمانهم من استكمال دراستهم الجامعية في مصر إثر قرارات حكومية صارمة، جاءت عقب سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024.
وبينما تُرفع شعارات الدعم الرسمي لـ"تطلعات الشعب السوري"، تؤكد شهادات الطلاب وأسرهم أن الحكومة المصرية تمارس سياسات إقصائية بحقهم، تتناقض مع كل ما يُعلن على المنصات الرسمية.
من الطب في مصر إلى الانتظار في الخليج
ميرا محمد، شابة سورية مقيمة في قطر، حصلت على الثانوية العامة بنسبة 98.6%، واختارت مصر لدراسة الطب، مسجلة في جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا عبر منصة "ادرس في مصر" الحكومية، ودافعة 16 ألف دولار رسومًا للتسجيل والدراسة.
لكن بعد حضور فصل دراسي واحد فقط، وجدت ميرا نفسها عالقة خارج مصر، بعدما أغلقت السلطات أبوابها في وجه الطلاب السوريين، خاصة من حاملي الإقامات الخليجية، عقب سقوط الأسد في ديسمبر الماضي.
تقول والدتها مها فنري: "دفعنا مصروفات الترم التاني ولسه بندفع إيجارا وأغراضها هناك، الفصل راح والقسط راح، وأملنا بس بفيزا تعليمية".
ثلاثة قرارات أطاحت بأحلام الطلاب السوريين
في منتصف ديسمبر 2024، صدرت ثلاثة قرارات متتالية أثرت بشكل مباشر على الطلاب السوريين:
1. إلغاء الاستثناءات الممنوحة لحاملي الإقامات الخليجية من الحصول على الموافقة الأمنية.
2. حظر دخول السوريين القادمين من أي دولة، باستثناء حاملي إقامة مؤقتة غير سياحية داخل مصر.
3. تشديد التعليمات على شركات الطيران بعدم صعود أي سوري للطائرة دون الموافقة الأمنية.
ورغم تصريحات إعلامية متكررة عن "استثناء الطلاب"، فإن الواقع يشير إلى استمرار منعهم، وفقدانهم فصلًا دراسيًا كاملًا، دون تعويض أو حتى رد للرسوم المدفوعة.
بيروقراطية وموافقات أمنية لا تصدر
الطالب رضوان أحمد، المقيم بالإمارات ويدرس الطب في جامعة 6 أكتوبر، يروي كيف أن الموافقة الأمنية التي قدم لها منذ سبتمبر 2024 لم تصدر حتى اليوم، رغم دفعه 4200 دولار للترم الأول، وسفره بفيزا سياحية بناء على تعليمات القنصلية.
ورغم أن السفير المصري في دمشق أعلن استثناء الطلاب، فإن رضوان وغيرهم لا يزالون ممنوعين من دخول مصر، بانتظار موافقات أمنية لا تصدر، أو تُرفض طباعتها "بسبب التوجيهات العليا"، كما جرى مع الطالب محمد العمري، بحسب رواية والدته.
"واسطة" أو العودة.. والطلاب ضحايا قرارات سيادية
مع انسداد الأفق، اضطر بعض الطلاب لمحاولة دخول مصر عبر "الواسطة". هالة محمد، طالبة في جامعة المنصورة، سافرت من السعودية إلى القاهرة في أبريل عبر صديق وعدها بالمساعدة، لكنها احتجزت في المطار 14 ساعة مع ابن خالتها، قبل أن يتم ترحيلهما.
بالتوازي، انتشرت ظاهرة بيع الموافقات الأمنية مقابل 5 آلاف دولار لفترة إقامة مؤقتة، ما فتح بابًا للفساد والابتزاز، وزاد من معاناة الطلاب وأسرهم، الذين اضطروا للاستدانة أو بيع ممتلكاتهم لتأمين تكاليف الدراسة.
شعارات رسمية.. وواقع مأزوم
في مارس الماضي، قال وزير التعليم العالي أيمن عاشور بحكومة الانقلاب: إن "مصر باتت الوجهة الأولى للسياحة التعليمية في الشرق الأوسط"، مؤكدًا أن ملف جذب الطلاب الوافدين أولوية.
لكن واقع الطلاب السوريين يُكذّب هذه التصريحات، خاصة مع غياب أسمائهم عن قوائم الحاصلين على الموافقات الأمنية، مقارنةً بطلاب من السعودية والإمارات.
وتُروّج الحكومة لموقع "ادرس في مصر" رغم أن الطلاب السوريين أنفسهم، حتى المقيدين بالفعل، باتوا عاجزين عن العودة أو استكمال دراستهم، ما دفع أسرًا للتفكير في نقل أبنائهم إلى دول مثل الأردن أو رومانيا.
لا استرداد للرسوم.. ولا أمل في الحل
يؤكد الدكتور أحمد عبد الغني، رئيس الإدارة المركزية للطلاب الوافدين، أن الجامعات لا ترد رسوم الطلاب الذين فاتهم الترم، موضحًا أن "الأمر أمني بالدرجة الأولى"، ومشيرًا إلى أن أي مستجدات لا تزال معلقة حتى إشعار آخر.
وحتى الآن، لا يبدو أن الحكومة المصرية بصدد تعديل سياساتها تجاه الطلاب السوريين، رغم مطالبات رسمية من وزارة الخارجية السورية، وقوائم أرسلها عشرات الطلاب توضح أرقام قيدهم الجامعي.
سؤال مفتوح: هل يدفع طلاب سوريا ثمن سقوط الأسد؟
مع غياب أي موقف رسمي حاسم، وتجاهل الحكومة لمصير الطلاب السوريين، يبدو أن الملف بات جزءًا من الحسابات السياسية والأمنية لنظام السيسي، الذي اختار التعامل مع السوريين بعد سقوط الأسد كخطر أمني لا كلاجئين أو طلاب.
ووسط هذه الفوضى، يضيع مستقبل مئات الشباب السوريين، فيما تواصل الدولة المصرية الترويج لصورة تعليمية وردية، تخفي خلفها واقعًا مريرًا لطلاب باتوا ضحايا لسياسات لا تعترف حتى بحقهم في استرداد ما دفعوه.