في مشهد يُعيد نفسه بعد أكثر من عقد من الزمان، دعا نظام المنقلب عبد الفتاح السيسي المواطنين مجددًا إلى ترشيد استهلاك الكهرباء لمواجهة أزمة نقص الغاز، فيما تشهد البلاد تراجعًا في إنتاج الكهرباء وعجزًا يهدد بعودة انقطاعات التيار خلال شهور الصيف، ولكن المفارقة تكمن في أن الدعوة ذاتها صدرت في 2013 على لسان رئيس الوزراء في عهد الرئيس المنتخب د. محمد مرسي، وقُوبلت حينها بهجوم ساخر وحملة إعلامية شرسة اتهمته بالفشل وعدم الكفاءة.
أما اليوم، يواجه المصريون أزمة كهرباء حقيقية، لكن الإعلام نفسه يغض الطرف عن المسؤول، بل يحاول تسويق سياسة الترشيد كخطة "استراتيجية"، وسط أزمة وقود ناتجة عن توقف ضخ الغاز من إسرائيل، وتراجع الإنتاج المحلي، وخسائر في مشروعات الكهرباء المبالغ في تكلفتها.
وفي مشهد يعيد إلى الأذهان تناقضات المشهد السياسي والإعلامي في مصر خلال العقد الأخير، عادت الحكومة الانقلابية الحالية برئاسة مصطفى مدبولي لتطالب المواطنين بترشيد استهلاك الكهرباء، ملوحة بإجراءات مشددة في حال ارتفاع الأحمال، وذلك في ظل أزمة خانقة تعانيها البلاد بسبب نقص إمدادات الغاز الطبيعي وارتفاع درجات الحرارة.
غير أن هذه الدعوة نفسها كانت قد طُرحت منذ 12 عامًا، وتحديدًا في عهد أول رئيس مدني منتخب، الدكتور محمد مرسي، الذي واجه حينها أزمة مشابهة، لكن الإعلام المدعوم خليجيًا – خصوصًا من الإمارات والسعودية – شن حملة سخرية ضده، وصور مطالبته بترشيد الكهرباء كدليل على فشل إدارته، واعتُبرت الأزمة حينها ذريعة لتحريض الرأي العام عليه.
حينما سخروا من الترشيد.. وأشعلوا الغضب
في عام 2013، خرج هشام قنديل، رئيس الوزراء في عهد مرسى، ليطالب المواطنين بترشيد استهلاك الكهرباء، مؤكدًا أن الحكومة تسعى لمعالجة اختلالات قطاع الطاقة، الذي كان يعاني من فساد متراكم وتهالك البنية التحتية، لكن هذه الدعوة تحولت حينها إلى مادة للتندر والسخرية عبر الفضائيات والصحف التي مولتها الإمارات والسعودية، وشاركت في تأجيج الغضب الشعبي كجزء من حملة منظمة لإسقاط أول رئيس مدني منتخب.
مقدمو البرامج وأبواق الأجهزة الأمنية صوروا الترشيد وكأنه دليل "فشل"، بينما كانت الدولة العميقة تفتعل أزمات الوقود والكهرباء لتأليب الشارع.
أزمة مفتعلة مقابل أزمة ناتجة عن تفريط
اللافت أن أزمة الكهرباء في عهد مرسي، وفق تقارير وتحليلات موثقة، لم تكن نتيجة نقص موارد أو فشل إداري، بل كانت مفتعلة من أطراف داخل ما يُعرف بـ"الدولة العميقة"، التي رفضت فكرة انتقال السلطة لحاكم منتخب خارج عباءتها. استخدمت هذه الأطراف أدواتها في إدارة البترول والكهرباء للضغط على الشارع، عبر تخفيض كميات الوقود الموردة للمحطات، وخلق طوابير مصطنعة، بما ساهم في إشعال الغضب الشعبي تمهيدًا للانقلاب العسكري لاحقًا.
اليوم، يكرر نظام جاء عبر انقلاب عسكري نفس الدعوات، بعد أن بدد ثروات مصر من الغاز وتنازل عن حقوقها فى حقول شرق المتوسط لصالح الكيان الصهيوني وقبرص واليونان، وسط صمت مطبق من الإعلام الذى طالما ضج بالسخرية من مرسى.
.
أما اليوم، فالأزمة تبدو أكثر عمقًا وجدّية، إذ أنها نتاج مباشر لتفريط النظام الحاكم بقيادة عبد الفتاح السيسي في حقوق مصر في غاز شرق المتوسط. فرغم وعوده المتكررة بتحويل مصر إلى "مركز إقليمي للطاقة"، أصبحت البلاد تعتمد في توليد الكهرباء على واردات الغاز من الاحتلال الإسرائيلي، الذي توقف عن الضخ مؤخرًا بسبب الحرب الإقليمية، مما أدى إلى تقليص إنتاج الكهرباء محليًا وعودة انقطاعات التيار في مناطق عديدة..
ازدواجية إعلامية وذاكرة منتقاة
المفارقة الأكثر إيلامًا هي تعامل الإعلام المصري مع الموقف. ففي حين تعرّض مرسي لحملات تشويه وسخرية بسبب مناشدته البسيطة بترشيد الاستهلاك، يتم اليوم تمجيد ذات الخطاب باعتباره "تحملًا للمسؤولية" و"وعيا استراتيجيًا".
ولم يسأل أحد: كيف تحوّلت مصر من بلد مكتفٍ بالطاقة إلى دولة تعاني من عجز حاد، رغم ما أُعلن عن اكتشافات عملاقة مثل حقل "ظهر"؟ ولماذا تذهب تلك الثروات إن لم تكن لتأمين حاجة المواطن الأساسية من كهرباء ومياه وغاز؟
حين يصبح الترشيد شماعة للفشل
ترشيد الكهرباء، في جوهره، ليس سياسة خاطئة بل قد يكون ضروريًا في أوقات الذروة أو الأزمات المؤقتة. لكن أن يتحول إلى سياسة دائمة، في بلد كان من المفترض أنه بات من كبار منتجي الغاز، فذلك يطرح أسئلة جدية حول السياسات الاقتصادية والاتفاقيات الدولية التي أبرمها النظام، والجهات المستفيدة منها على حساب الشعب المصري.
.
مراقبون :تفريط السيسي وراء الأزمة
يرى مراقبون أن جذور الأزمة الحالية تعود إلى تفريط السيسي في حقوق مصر التاريخية في غاز شرق المتوسط، بعدما وقّع اتفاقات ترسيم حدود بحرية مهّدت لنهب الثروات من قِبل الاحتلال الإسرائيلي وقبرص واليونان. كما أن بيع الغاز المصري لإسرائيل بأسعار بخسة ثم استيراده بأسعار مرتفعة شكل عبئًا جديدًا على الاقتصاد والطاقة في البلاد.
الخبير الاقتصادي المعتقل بسجون الانقلاب د. عبد الخالق فاروق علّق على الأزمة في تصريحات سابقة بقوله:
"ما حدث أيام مرسى كان أزمة مفتعلة، بينما ما يحدث الآن هو نتيجة مباشرة لسياسات التفريط والفساد. السيسي لم يورث فقط أزمة، بل صنع كوارث جديدة بتنازلاته عن مصادر مصر السيادية من الطاقة."
أحد النشطاء على "X" (تويتر سابقًا) كتب ساخرًا:
"قالوا عن مرسى إنه فاشل لأنه طالب الناس تطفي اللمبة، طيب السيسي لما بيطفي عليهم الكهرباء كلها اسمه إيه؟"
الصحفي الاستقصائي حسام بهجت كتب:
"في الوقت الذى كانت فيه مصر قادرة على تحقيق اكتفاء ذاتي من الغاز، اختار النظام الحالي بيع الأصول والارتهان لاتفاقات خاسرة، وأعاد البلاد إلى أجواء الظلام، بلا خطة واضحة."
تناقضات نظام بلا محاسبة
لم يسأل أحد عن مصير مشاريع المليارات في الكهرباء التي أعلنت عنها حكومة السيسي خلال السنوات الماضية، ولا عن كيف أصبحت دولة غاز مثل مصر مهددة بالعتمة، تناقضات النظام الحالي، بحسب مراقبين، تفضح ازدواجية الخطاب الإعلامي، وتجرد خطاب "الأمن والاستقرار" من أي مصداقية.
الفرق بين أزمة اليوم والأمس
أزمة الكهرباء اليوم ليست سوى نتاج مباشر لانهيار إدارة الموارد، وتفريط متعمد في الثروات الوطنية، يقابله إعلام صامت ومتواطئ، وشعب يدفع الثمن في صمت وعرق وحر. أما من كانوا يسخرون من دعوة مرسى لترشيد الكهرباء، فقد تحولوا اليوم لمروّجين لنفس الدعوة، ولكن بعد أن خسر المصريون كل ما يمكن أن يوفر لهم النور.