في بلدٍ لم يعد يفرّق بين العدل والعبث، يقبع فتى مُعاق من ذووى الهمم خلف قضبان الحديد، متّهماً بتهم لم يقدر يوماً حتى على نطقها، فما بالك بتنفيذها؟ محمد وليد محمد عبد المنعم، ابن التاسعة عشرة، حُرم من حريته، لا لأنه مذنب، بل لأنه وُلد بجسد مريض لا يقوى على الوقوف، فإذا بالنظام يراه قائداً لعمليات إرهابية.
في مشهد أقرب إلى الهذيان منه إلى الواقع، تم اعتقال محمد في 24 أبريل/نيسان 2024 أمام جامعة النيل الأهلية، بينما كان يحاول عبور الطريق للدخول إلى حرم الجامعة.
لم يكن يحمل سوى أوراق أحلامه، وسجلاً طبيًّا يئنُّ من حجم الإعاقات: اعوجاج دائم في العمود الفقري، إعاقة تامة في الذراع، ضمور في القدم، ضعف في عضلة القلب والرئتين، وتشوهات خلقية في الجمجمة، ناهيك عن عدم قدرته على قضاء حاجته دون مساعدة.
ورغم كل ذلك، وُجهت إليه تهم كبرى: "قيادة جماعة إرهابية وتمويلها". تُهمة تُختلق من اللاشيء، وتُعلق على جسد لا يقوى على المشي. وتستمر المأساة، حيث يُجدد حبسه بشكل روتيني كلما عُرض على نيابة أمن الدولة التي عاينت حالته مراراً، ثم وقعت قرارات التجديد بلا تردد، كأن البصر غاب، أو البصيرة انطفأت.
من المسؤول؟ الضابط الذي اعتقله؟ وكيل النيابة الذي أمر بحبسه؟ أم النظام الذي اختار هؤلاء؟
أي قاع هذا الذي سقط فيه نظام المنقلب السفاح عبد الفتاح السيسي، حين يخاف من شاب معاق لا يستطيع الحركة، فيزج به في وادي النطرون؟ أهذا عدل؟ أهذه دولة؟ أليس في هذا النظام من يمتلك ذرة إنسانية، أو حتى حدًّا أدنى من المنطق؟
أسرة محمد صرخت حتى بُح الصوت. قالت أمّه: "ابني لا يستطيع أن يمشي، فكيف يقود جماعة؟". لكن لا أحد يسمع. لا "المجلس القومي لحقوق الإنسان"، ولا برلمان الصمت، ولا صحافة أصبحت أقرب إلى منشورات تمجيدٍ في سفاحٍ يحرق البلاد كما فعل نيرون بروما، فقط ليبقى هو وعصابته في الحكم.
من زنزانته، لا تصل كلمات محمد، بل تصل صرخات جسده.
في صور مؤلمة، ظهر وجهه متورّماً، عيناه محاطتان بكدمات سوداء، ولسانه خارج فمه دون تحكم. كل ما فيه يقول إنه لا يحتمل يوماً آخر في السجن، ومع ذلك، يستمر التنكيل، ويستمر التجديد.
مواقع التواصل ضجّت بقضيته. قال أحد المعلقين: "هذا ليس قانوناً، بل سقوط أخلاقي مدوٍ"، وكتب آخر: "مأساة محمد تختصر مأساة وطن". شهادات من جيران ومعارف أكدت وجود حالات مماثلة: معاقون ذهنياً أو جسدياً قضوا سنوات في السجن دون رحمة.
هل وصلنا لهذا الدرك؟ أن نحاسب من لا يقوى على رفع رأسه، باتهامه برفع السلاح؟
أين الدولة من هذا الانهيار؟ أين ضمير النيابة؟ أين الصحافة التي لا تكتب إلا ما يُملَى عليها؟ أين البرلمان؟ أين "الإنسان" في هذه الجمهورية الموبوءة بالبطش؟
كل هذا الصمت، كل هذا التواطؤ، أمام مشهد لا يحتاج تحقيقاً بل يحتاج ضميراً. لكن يبدو أن الضمير آخر ما تبقّى في هذا الوطن المنهوب، وطن لا يخاف من السلاح، بل من جسدٍ معاق لا يقوى على الوقوف.
فهل سيُفرج عن محمد قبل أن ينطفئ قلبه؟ أم أن آلة القمع لم تكتفِ بعد من سحق ما تبقى من الإنسان في هذا البلد؟