بقلم / حسن قديم
أبو عبيدة… الصوت الذي أرّق الاحتلال
في عالم باتت فيه الصورة تسبق الكلمة، خرج الناطق الرسمي باسم كتائب القسّام (الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس") أبو عبيدة، مُغطّى الملامح ليقلب معادلة الإعلام، ويثبت أنّ الصوت، حين يكون نابعاً من قضية عادلة، قادر على أن يهزّ أركان الخصوم ويُلهم الأحرار.
تحوّل أبو عبيدة إلى رمز وأيقونة في الوعي الجمعي العربي والإسلامي، من دون أن يَرى الناس وجهه أو يعرفوا اسمه الحقيقي.
منذ أوّل ظهور له عام 2004 خلال معركة "أيام الغضب"، اختار أبو عبيدة أن يخفي ملامحه، ليجعل من التخفّي شكلاً من أشكال الحضور. غاب الوجه، فحضرت الرمزية، لم يكن القناع مجرّد وسيلة للتمويه، بل صار جزءاً من الهوية البصرية للمقاومة، حيث الكوفية الحمراء، والعصبة الخضراء، والزي العسكري، كلّها ملامح ثابتة ترمز إلى الثبات والانتماء.
ولد أبو عبيدة في عام 1984 في مخيّم جباليا شمال قطاع غزّة، ونشأ في بيئة مقاومة، إذ تلقى تعليمه في مدارس وكالة "أونروا"، قبل أن يكمل دراسته الأكاديمية ويحصل على درجة الماجستير في تفسير القرآن الكريم من الجامعة الإسلامية في غزّة. منذ اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، التحق بصفوف حماس وكتائب القسّام، وتدرّج في صفوفها حتى تسلّم المسؤولية الإعلامية بعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزّة عام 2005.
أيقونة حقيقية في زمن التشتّت الإعلامي والانقسام السياسي
لكن صعوده لم يكن إعلامياً بحتاً، بل جاء نتيجة حضور مُتماسك يجمع بين الأداء الإعلامي المُحترف، والمعرفة العسكرية، والحنكة النفسية. تولى رئاسة دائرة الإعلام العسكري في كتائب القسّام، فأشرف على أقسام التوثيق، والتصوير، وإدارة العمليات النفسية، والبيانات، ومنصّات التواصل، فحوّل الخطاب الإعلامي للمقاومة إلى مدرسة متكاملة توازن بين الانضباط التعبيري والرسالة الموجّهة.
ورغم أنّ ظهوره الإعلامي نادر، فإنّ كلّ إطلالة له تتحوّل إلى حدث، وكلّ بيان يحلّل كأنه وثيقة استراتيجية. لا تخطئ الأذن نبرة صوته الحادة، الهادئة في ظاهرها، الحاسمة في مضمونها. يُحسن اختيار المفردات، ويدير إيقاع الجملة ببلاغة لافتة، حتى قورن في بعض التحليلات بخطباء الحروب الكبار. يخاطب جمهوره في غزّة، كما يخاطب الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، ويصل صداه حتى إلى الغرب، حيث تُترجم كلماته وتُتابع بعناية.
ما جعل أبو عبيدة مُختلفاً عن غيره من المتحدّثين العسكريين، ليس لصوته أو لقناعه فحسب، بل مصداقيته التي باتت نادرة في زمن الحروب الدعائية. تحوّل إلى مصدر موثوق حتى في نظر بعض وسائل الإعلام العبرية والدولية، التي كثيراً ما تبني على تصريحاته معلومات أو تحليلات للوضع الميداني. لم يُعرف عنه المبالغة، ولم يُرصد له خطأ استراتيجي في تصريحاته، ما جعله يتفوّق على الرواية الإسرائيلية في أكثر من مناسبة، ويُفشل كثيراً من بروباغندا الاحتلال، بإيجاز خطاب ووضوح معلومة.
تحوّل أبو عبيدة إلى رمز وأيقونة في الوعي الجمعي العربي والإسلامي، من دون أن يَرى الناس وجهه أو يعرفوا اسمه الحقيقي
هذا الحضور الإعلامي الفريد لم يكن بعيداً عن الواقع الميداني، بل هو متصل به ارتباطاً عضوياً. فخطاباته، التي غالباً ما تُبثّ بعد إنجاز عسكري أو في خضم جولة تصعيد، تتحوّل إلى معالم في الذاكرة الجماعية الفلسطينية. كلمات قليلة، لكنّها مشحونة بالرمزية والثقة، كافية لرفع معنويات شعب محاصر، ولإرباك مجتمع احتلال مدجّج بالسلاح والدعاية.
ورغم كلّ ذلك، يبقى أبو عبيدة أحد أكبر الألغاز الأمنية التي تؤرق إسرائيل. الرجل الذي فشلت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، ومعها الدعم الأميركي والتقنيات المتقدّمة، في الوصول إليه أو تصفيته، بات كابوساً مُستمراً في عقل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. ففي كلّ جولة تصعيد، تُسارع إسرائيل إلى الترويج لخبر اغتياله، لكن سرعان ما يتبدّد ذلك عند ظهوره مجدّداً، كما حدث مرات عديدة.
وجوده رمزاً حياً للمقاومة دفع الولايات المتحدة في 2024 إلى فرض عقوبات عليه، ضمن محاولات تشويه صورته ووصمه بالإرهاب، في حين استمر حضوره بالتصاعد عربياً وإسلامياً، بوصفه صوتاً للمقاومة ووجهاً إعلامياً لتيار يرفض التطبيع ويؤمن بحقّ الشعب الفلسطيني في التحرير.
اختار أبو عبيدة أن يخفي ملامحه، ليجعل من التخفّي شكلاً من أشكال الحضور
الإسرائيليون، بقدر ما ينكرون أثره، يخشونه. اسمه يتصدّر العناوين في الإعلام العبري، وتُفرد له التحليلات والبرامج. فقد تحوّل اسمه إلى هاشتاغ دائم على منصّات التواصل، وصار ظهوره الإعلامي مقروناً دوماً بتغيّر في المزاج العام داخل إسرائيل: حالة ترقب، رعب أمني، وهزّة نفسية قد تصل أحياناً إلى التشكيك في قدرات جيشهم.
أما في الوعي العربي، فقد أصبح أبو عبيدة أكثر من مجرّد متحدّث، بل أيقونة حقيقية في زمن التشتّت الإعلامي والانقسام السياسي. لم يسع إلى الشهرة، ولم يظهر في لقاءات حصرية، ولم يستثمر حضوره في منصّات شخصية، بل ظلّ ملتزماً بدوره صوتاً لجبهة مقاومة تؤمن بالفعل لا بالكلام، وبالتحرير لا بالتفاوض.
في عالم يفيض بالضجيج، يعلو صوت أبو عبيدة جرساً للحقيقة. لا يعرف الناس وجهه، لكنهم يعرفون صوته. لا يحمل اسمه الشخصي، لكن لقبه صار رمزاً. وفي زمن تتكاثر فيه الوجوه وتتبدّل المواقف، بقي هو ثابتاً، يمثّل الرواية التي لم تستطع كلّ بروباغندا الاحتلال تشويهها.
أبو عبيدة… الصوت الذي لم يُر، لكنه سُمع في كلّ مكان، وظلّ شاهداً على صمود غزّة وإجرام الاحتلال، وعنواناً لصوت المقاومة الذي لا يموت.