في خطوة تثير كثيرًا من علامات الاستفهام والقلق، قرر مركز البحوث الزراعية التابع لوزارة الزراعة إنشاء شركة مساهمة لإنتاج التقاوي، وهو القرار الذي أصدره رئيس المركز، عادل عبد العظيم، الأسبوع الماضي. هذه الخطوة – التي يفترض أنها تأتي لإنقاذ المركز من أزماته التمويلية – اعتبرها خبراء وباحثون تحولًا خطيرًا في مسار المؤسسة البحثية الأهم في البلاد، التي تأسست لخدمة الفلاحين والمصلحة العامة، لا لتتحول إلى كيان تجاري يفتح أبوابه أمام رجال الأعمال والقطاع الخاص.
بهذا تتحول مؤسسة وطنية كان يفترض أن تحمي الثروة الزراعية والأمن الغذائي إلى مجرد ذراع جديدة في مشروع المنقلب السفيه السيسي لخصخصة أصول الدولة وبيع مستقبل المصريين لحفنة من رجال الأعمال وأذرع العسكر.
وكان مركز البحوث الزراعية، التابع لوزارة الزراعة، قد قرر إنشاء شركة مساهمة لإنتاج التقاوي، وفق إعلان داخلي أصدره رئيس المركز، عادل عبد العظيم، الأسبوع الماضي، فيما يرى خبراء وباحثون أن هذه الخطوة ستغير جذريًا الدور التاريخي للمركز، وتحوله إلى ذراع يخدم مصالح الشركات التجارية، بدلًا من أن يظل مؤسسة بحثية وطنية تسعى لتوفير أصناف وتقاوي للفلاحين بأسعار شبه مدعمة.
الشركة الجديدة ستضم بين مساهميها عددًا من كبار اللاعبين في السوق، بحسب ثلاثة مصادر من داخل المركز، طلبوا عدم ذكر أسمائهم.
أبرز هؤلاء المساهمين هي الشركة الدولية لإنتاج التقاوي، المملوكة للرئيس السابق للجنة الزراعة بمجلس الشيوخ والقيادي بحزب مستقبل وطن بالدقهلية، عبد السلام الجبلي، الذي سبق واتهمه جهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار، في قضية احتكار، سواها الجبلي بدفع غرامة مليوني جنيه.
في الوقت نفسه، بحسب مصدر مسؤول بالإدارة المركزية لإنتاج التقاوي التابع لوزارة الزراعة،، تجري مناقشات مع «جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة»، المولود من رحم القوات الجوية، لتحديد ما إذا كان سينضم كمساهم في الكيان الجديد أو يؤسس شركة منفصلة خاصة به، ضمن مساعٍ متواصلة للجهاز للتمدد والسيطرة على قطاعات الأمن الغذائي في البلاد.
ويعاني المركز منذ عقود من نقص حاد في التمويل، أعاق باحثيه عن إنتاج وتطوير أصناف من التقاوي، باستثناء محاصيل بعينها مثل القمح والأرز التي ينتجها المركز بكثافة تسمح للمزارعين بالاعتماد عليه دون الحاجة للشركات.
بحسب مصادر صحفية ستبدأ الشركة عملها بإنتاج تقاوي الخضروات، التي تستورد مصر نحو 98% من احتياجاتها منها، قبل أن تتوسع لاحقًا إلى محاصيل أخرى.
خطوة الشراكة مع القطاع الخاص أثارت مخاوف بين خبراء وباحثين، رأوا فيها تحوّلاً جذريًا في الدور المفترض لمركز البحوث، في توفير تقاوي بأسعار شبه مدعمة للفلاحين، ما يهدد بوضع أكثر هشاشة لقطاع الأمن الغذائي، نتيجة الارتفاع المحتمل في أسعار التقاوي، فضلًا عن تهديد السيادة الغذائية بوضع غذاء المصريين في أيادي القطاع الخاص.
رئيس وحدة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وائل جمال، يرى أن دمج المركز في شركة هادفة للربح بالشراكة مع القطاع الخاص يأتي ضمن توجه أوسع للنظام الحالي لتمكين القطاع الخاص في مجالات كانت مغلقة أمامه لعقود، «بعد المياه، جاء الدور على البذور».
شركاء من أصحاب المصالح
وفق مصادر من داخل المركز، فإن الشركة الوليدة ستضم مساهمين من كبار اللاعبين في السوق الزراعي، أبرزهم الشركة الدولية لإنتاج التقاوي المملوكة لعبد السلام الجبلي، القيادي في حزب مستقبل وطن ورئيس لجنة الزراعة السابق بمجلس الشيوخ، والذي سبق أن اتهمه جهاز حماية المنافسة بالاحتكار قبل أن يسوّي القضية بدفع غرامة مالية.
وفي الوقت ذاته، تجري مناقشات مع جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة – أحد أذرع المؤسسة العسكرية – للمشاركة في الكيان الجديد أو تأسيس شركة منفصلة للسيطرة على قطاع التقاوي، وهو ما يعني أن أمن مصر الغذائي بات مهددًا بسطوة الشركات وأذرع النظام.
من البحث إلى التجارة
تأسس مركز البحوث الزراعية عام 1971 ليكون الذراع البحثي للدولة في تطوير الزراعة عبر 16 معهدًا و10 معامل مركزية، ورغم معاناته من نقص التمويل لعقود، فإنه ظل ينتج أصنافًا استراتيجية مثل القمح والأرز بأسعار في متناول الفلاحين. إلا أن الخطوة الجديدة تنذر بتحويل المركز من مؤسسة علمية إلى شركة ربحية، تخضع لاعتبارات السوق لا لمتطلبات الأمن الغذائي.
تهديد للسيادة الغذائية
خبراء في الزراعة والاقتصاد الاجتماعي اعتبروا القرار استمرارًا لنهج السيسي في بيع أصول الدولة وتحويل المرافق الوطنية إلى كيانات ربحية تخدم رأس المال. فبعد فتح الباب للقطاع الخاص في مياه الشرب والصرف الصحي، جاء الدور الآن على البذور، قلب الأمن الغذائي لأي أمة.
ويرى وائل جمال، رئيس وحدة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أن الشراكة مع القطاع الخاص «تقنن» دخول الشركات الأجنبية والمحلية إلى قطاع التقاوي، بحيث يتحول المركز فعليًا إلى خادم لمصالح تلك الشركات.
أما الباحث عبد المولى إسماعيل فيحذر من أخطر ما في الأمر: انتقال البذور من الملكية العامة إلى الشركات الخاصة، بما يعني عمليًا «قرصنة التقاوي»، وحرمان الفلاحين من حقهم التاريخي في حفظها وتبادلها. والنتيجة المتوقعة: ارتفاع أسعار التقاوي والغذاء وتكبيد المزارعين والمستهلكين أعباء إضافية.
الفلاحون الحلقة الأضعف
التجارب السابقة مع شركات التقاوي الخاصة تثبت أن أسعارها تفوق بكثير أسعار وزارة الزراعة، وأن معظمها يروّج لبذور «عقيمة» لا تُزرع سوى لموسم واحد، ما يجبر الفلاحين على الشراء سنويًا. هذه الممارسات، مصحوبة بتهديدات قانونية وعقوبات ضد من يحتفظ بالبذور، تجعل الفلاح أسيرًا للشركات، بدلًا من أن يكون مركز البحوث سندًا له.
أستاذ في الاقتصاد الزراعي بجامعة القاهرة لخص الأمر قائلًا:
«حين يدخل القطاع الخاص – وربما جهاز بحجم مستقبل مصر – في شراكة مع مركز البحوث، فإن الأسعار ستُحدد وفق منطق السوق. الفلاح الصغير هو الضحية، والمواطن العادي سيتحمل في النهاية كلفة الغذاء المتزايدة عامًا بعد عام».