في مشهدٍ يلخّص طبيعة العلاقة بين نظام السيسي وأي حراكٍ شعبي يتجاوز الخطوط الحمراء التي يرسمها، تحوّل مقر "أسطول الصمود المصري" في حي الدقي إلى ساحة مواجهة مكتومة بين جمهور متحمس للتضامن مع غزة، وحصار أمني مشدد ينذر بالقمع. فما إن بدأت الوفود الشعبية تتدفق، والمساعدات تُفرز استعداداً للإبحار نحو القطاع المحاصر، حتى بادرت الأجهزة الأمنية فجر الثلاثاء إلى اعتقال ثلاثة نشطاء، بينهم اثنان من اللجنة التحضيرية، مع إخفاء أماكن احتجازهم، في رسالة واضحة بأن الدولة تتعامل مع المبادرة كتهديدٍ سياسي لا كعمل إنساني.
الحدث يكشف، بحسب مراقبين، عداء النظام لأي فعل جماهيري مستقل يتجاوز قبضته، حتى لو كان تحت شعار دعم غزة. فالمشهد لم يقتصر على اعتقالات، بل شمل تهديدات مباشرة لأصحاب القوارب، ورفض رسمي متكرر لمنح الضوء الأخضر للإبحار. في المقابل، برزت أصوات معارضة، من بينها المرشح الرئاسي السابق خالد علي الذي تساءل: "ألا يستحق الشعب المصري أن يشارك في هذا الحدث الإنساني؟"، بينما عبّرت الناشطة النقابية منى مينا عن مرارتها قائلة: "كل الشعوب تتضامن مع غزة… إلا نحن علينا المنع".
على الأرض، ظل مقر الأسطول أشبه بخلية عمل، حيث استمر استقبال المتطوعين والقوافل حتى ساعات متأخرة من الليل، رغم الطوق الأمني. ورافقت المبادرة حملة تفاعل واسعة على مواقع التواصل تحت وسمَي #أدعم_أسطول_الصمود و #مركبك_صمودهم، عكست غضباً شعبياً من التضييق مقابل إصرارٍ على كسر الحصار.
تحليل المشهد يوضح أن الخوف الحقيقي للنظام ليس من المراكب بحد ذاتها، بل من رمزيتها: فهي تعني تجاوز الشعب لسياسات الدولة الرسمية، والالتحام مباشرةً مع قضية مركزية يتهرّب النظام من تبنيها. دعم غزة بهذا الشكل الشعبي قد يُعيد إلى الأذهان أجواء التضامن العفوي التي اعتاد النظام سحقها منذ انقلاب يوليو، لذلك يفضل أن يبقى الملف الفلسطيني محصوراً في حدود الحسابات الأمنية والصفقات الإقليمية.
في المقابل، وعلى الساحة الدولية، يواصل "أسطول الصمود العالمي" شق طريقه عبر المياه اليونانية، وسط دعم أممي وشعبي متصاعد. فقد أعلن عمال موانئ في إيطاليا استعدادهم لتعطيل الشحنات الإسرائيلية إذا تعرض الأسطول لأي اعتداء، فيما طالبت المقررة الأممية فرانشيسكا ألبانيز الدول بتأمين الإبحار إلى غزة مؤكدة: "إن لم يكن ذلك في زمن إبادة جماعية، فمتى؟".
هكذا يتضح التناقض الصارخ: عالم يتضامن مع غزة علناً، ونظام يجرّم حتى التضامن الرمزي داخل حدوده. وبينما يصر المنظمون على استمرار مبادرتهم رغم القمع، تبقى الأسئلة مفتوحة: هل سيتحول أسطول الصمود إلى شرارة حراك أوسع ضد سياسة الخنوع الرسمية؟ أم ينجح السيسي كعادته في وأد أي بادرة استقلال شعبي .