مع رفع أسعار التذاكر وتقليص الأعداد التى يتم توقيع الكشف عليها إلى نحو 200 حالة يوميا فقط تراجع الدور الذى كان يقوم به معهد القلب القومى بإمبابة وأصبح المرضى يتزاحمون عليه من أجل الكشف والعلاج أو إجراء عملية جراحية إلا أن رحلتهم المريرة تتهى بالفشل ويتعرض بعضهم للموت أو فقدان الأمل فى الشفاء والعودة إلى الحياة الطبيعية .
هكذا أصبح معهد القلب القومى، فى زمن الانقلاب، ساحة صراع تتجسد فيها قصص الألم، تبدأ هذه الحكايات مع شروق كل شمس، حين تتوافد الأجساد المنهكة من كل مكان، تحمل معها آلامها، وأحلامها بتمنى شفاء ربما لن يأتى بسهولة، تبدأ فصول معاناة يومية لا تنتهى من ارتفاع تكاليف التذاكر وسوء الخدمة التى يقدمها المعهد للمرضى.
طابور طويل
«الحاج على»، رجلٌ جاوز السبعين من عمره، صدره ينهشه الألم، وخطواته تتباطأ مع كل دقة قلب، يقطع عشرات الكيلو مترات من قريته النائية فى الصعيد، حاملًا معه حقيبة صغيرة لا تحوى سوى ملابسه القديمة وبضعة جنيهات ادخرها طوال عام كامل، يصل إلى المستشفى فجرًا، لكنه يجد أمامه طابورًا طويلًا يقف لساعات، يضيق تنفسه، وتتزايد دقات قلبه المضطربة. كلما تقدم خطوة، يشعر بأن روحه تخرج من جسده، لكن الأمل فى مقابلة الطبيب يدفعه للصمود.
عندما يصل أخيرًا إلى شباك التذاكر، يجد نفسه قد دخل فى الفترة المسائية «الكشف الاقتصادى»، يتلقى الصدمة «سعر التذكرة زاد يا حاج»، يدفع المبلغ الجديد، وتتساقط من عينيه دمعة حارقة، ليست من الألم الجسدى، بل من العجز واليأس، يشعر بأن المرض لم يعد مجرد معاناة شخصية، بل أصبح عبئًا اقتصاديًا يثقل كاهله.
بعد دفع التذكرة، تبدأ رحلة أخرى داخل جدران المعهد، يجد «الحاج على» نفسه فى زحام شديد أمام بوابة الاستقبال. مئات المرضى وذووهم يتدافعون، الأصوات تتعالى، والأنفاس تختلط.
كرسى متحرك
فى هذا الفضاء المزدحم، تجلس «أم محمود»، سيدة فى الخمسين من عمرها، على كرسى متحرك، أصيبت مؤخرًا بجلطة قلبية، وجاءت من محافظة نائية على أمل أن تجد العلاج، يتكئ ابنها عليها، محاولًا حمايتها من التدافع، لكنه لا يفلح.
تهمس له بصوت خافت: «يا ولدى، قلبى لا يحتمل هذا الزحام، أخشى أن يذهب بما تبقى من عمرى هنا»،
يستمع الابن إلى كلماتها، ويحاول أن يشق طريقه فى هذا البحر البشرى، لكنه يجد نفسه عاجزًا. يرى حوله مرضى ينهارون من الإرهاق، وآخرون يفترشون الأرض بحثًا عن لحظة راحة.
رحلة علاج
لم يكن «شريف» يتوقع أن تتحول رحلة علاج خاله «عبدالله» من مرض القلب إلى ماراثون من المعاناة، يمتد لأكثر من 40 يومًا فى متاهات معهد القلب بسبب الروتين الإدارى، والإهمال.
تبدأ القصة عندما أوصى الأطباء عبدالله ، وهو طبيب بيطرى متقاعد يبلغ من العمر 57 عامًا، بضرورة تركيب جهاز لتنظيم ضربات القلب. كان يعتقد أن تأمينه الصحى ومكانة المستشفى كافيان لضمان رحلة علاج سلسة لكنه لم يكن يعلم أن الطريق إلى غرفة العمليات يمر عبر دهاليز البيروقراطية.
فور دخوله المعهد، بدأت معاناة «شريف» فى مكتب التأمين الصحى. كان الحصول على ورقة موافقة بسيطة يتطلب الوقوف فى طابور لا ينتهي، أمام موظفة واحدة فقط، غالبًا ما تكون فى إجازة. ما كان يجب أن ينتهي فى يوم واحد، استغرق أسبوعًا كاملًا، مما أدى إلى تأخير الإجراءات الطبية.
يقول شريف: كان الأمر استفزازيًا. بدلًا من أن نركز على صحة خالى، كنا نركز على ورقة تأمين، وفى النهاية، أصبحت هذه الورقة هى ما يوقف كل شيء .
بعد أيام من الانتظار، أصيب عبدالله بميكروب غريب، ما أدى إلى تدهور حالته الصحية. لم يكن شريف يعرف مصدر هذا الميكروب، لكنه يتذكر مشهد القطط التى كانت تتجول بحرية داخل غرف المستشفى، وتتقافز على الأدوات والأدوية .
وأضاف شريف بغضب: بعد اكتشاف الميكروب، تغيرت الأولويات، لم يعد الهدف هو إجراء العملية، بل التخلص من العدوى أولًا، مشيرا إلى أنه لولا شكوى قدمها ما كانوا فعلوا شيئا .
وتابع : بعد الشكوى، تم عزل خالي فى غرفة خاصة، ولكن الإجراءات لم تكن مثالية، حتى الزيارة كانت مشروطة بدفع «غرامة» مالية على الباب، فى حين كان التعقيم غائبًا.
يأس وإحباط
بعد أسابيع من العلاج، بدأ الحاج عبدالله يتعافى من الميكروب، وجاءت اللحظة التى طال انتظارها، أبلغه الأطباء أنه يجب عليه الصيام استعدادًا للعملية فى اليوم التالى، صام الحاج عبدالله لمدة 12 ساعة، يملؤه الأمل فى أن ينتهى هذا الكابوس. لكن فى اليوم التالى، جاء أحد الأطباء ليخبره: «افطر، لا توجد عملية اليوم».
هذه الواقعة كانت القشة التى قصمت ظهر البعير، شعر الحاج عبدالله بالإحباط، وتضاعفت معاناته النفسية التى أثرت سلبًا على قلبه. بعد 43 يومًا من دخوله المستشفى، كان لا يزال ينتظر، لم يتم تركيب الجهاز، بل زادت حالته الصحية سوءًا بسبب العدوى، وتم إجراء عملية قسطرة استكشافية لاحتياطات الأطباء.
وأكد شريف أن ما حدث ليس خطأ الأطباء، بل هو نتيجة روتين إدارى قاتل. بدأنا فى رحلة علاج، ووجدنا أنفسنا فى دوامة لا تنتهى من التأخير والإهمال .
الهروب
بعد أيام تملك الخوف قلب « عبدالله». وقرر أن يهرب من هذا الجحيم. وقال : أفكر فى الهروب من المستشفى، لاستكمال حياتى بعلتى أفضل من أن أكتب مصيرى بيدى. جاء ذلك بعد مشاهدة مريض فى الغرفة المجاورة له فشلت عمليته، وسببت له مضاعفات خطيرة .
شباك التذاكر
فى مستشفى الساحل التعليمى، تبدأ قصة «الحاجة هالة»، سيدة تجاوزت الستين من عمرها، وجدت نفسها فى مواجهة مزدوجة مع المرض والأعباء المالية. ذهبت لإجراء فحص لقلبها، ولكن القدر كان يحمل لها مفاجأة مؤلمة عندما شعرت ابنتها بنغزة فى قلبها، ثم أغمى عليها. كان التشخيص الفورى: يجب أن تتوجه الاثنتان إلى معهد القلب القومى على الفور.
وصلت «الحاجة هالة» إلى المعهد فى تمام العاشرة صباحًا، وهى تحمل هم ابنتها وتأمل فى الحصول على تذكرة للدخول. لكنها فوجئت بأن شباك التذاكر لن يفتح قبل الثانية عشرة ظهرًا، وأن التذاكر محدودة العدد، لا تتجاوز 200 حالة، يتوافد مئات المرضى من الفجر للحصول على تذكرة، ومن لا يلحق، فعليه أن ينتظر للفترة المسائية، التى ترتفع فيها أسعار التذاكر» .
انتظرت الحاجة هالة ساعتين كاملتين، وعندما فتح الشباك، كانت التذاكر قد نفدت، وهنا جاءت الصدمة الثانية: لم يعد سعر التذكرة 55 جنيهًا كما كانت تعتقد، بل تخطى المائة جنيه.
وقالت الحاجة هالة : «أنا كل اللى معى 65 جنيهًا، أعمل إيه؟ أروح منين؟» .
وأضافت والدموع تملأ عينيها : بنتى تعبانة، وأخويا محجوز فى المستشفى بقاله سنتين، والناس هنا ما بترحم، لحسن الحظ، ظهر «ابن حلال» رأف بحالها ودفع لها المبلغ، لكن هذه اللفتة الإنسانية لم تخفف من شعورها بالضياع والعبء الثقيل.