بقلم / سهيل كيوان
نقلا عن القدس العربى
لم يظهر في التاريخ البشري أسطولٌ بحريٌ مثل «أسطول الصّمود» الأممي المتوجّه لكسر الحصار على قطاع غزّة، يشارك فيه مئات الأحرار من أربعٍ وأربعين جنسيّة، يتحدثون بلغات شتى تجمعهم عبارة واحدة «الحرية لفلسطين».
مهما كانت النتيجة التي سيؤول إليها هذا الأسطول، فقد حقق نجاحاً إعلامياً ومعنوياً عظيماً وخصوصاً للمحاصرين.
على الأرجح أنّه سيجري اعتقال جميع المشاركين والتنكيل ببعضهم، وقد يستشهد بعضهم كما حدث مع أسطول الحرّية الأول عام 2010 حيث استشهد تسعة مواطنين أتراك كانوا على متن السَّفينة مرمرة.
الاحتلال لن يتيح لهؤلاء الأحرار الأبطال الوصول إلى شواطئ قطاع غزّة، لأنّ المشهد حينئذ سيكون تاريخياً ومُلِهما لا سابق له، ولهذا لن يسمح الاحتلال بوصوله.
رغم ذلك، فإن هذا الأسطول يدخل التاريخ من أوسع أبوابه، وصل أم لم يصل إلى قطاع غزّة.
سوف يتفاخر جيش الاحتلال بقدراته البحرية بإزاء السّفن المدنيّة والمدنيين، وسوف يعلن عن المنطقة التي سيصلون إليها منطقة عسكرية مغلقة، وسوف يحتجز السّفن، وقد يغرق بعضها بعد اعتقال ركابها، وسيقطع اتّصالهم مع العالم الخارجي، ولكنها ليست سوى عملية قرصنة وإرهاب ضد مدنيين تُضاف إلى السّجل الطويل من إرهاب الدولة الذي يمارسه الاحتلال.
أكثر الشّعوب التي عاشت وتعيش على الشواطئ، شاركت بشكل أو بآخر في الغزوات البحرية، سواء كانت هي المبادرة للغزو أو هي التي تعرّضت له.
كذلك في التاريخ الإنساني حملات إغاثة كثيرة لبلدان تعرّضت إلى مجاعات بسبب أوبئة أو كوارث طبيعية أو حصار عسكري، ولكنها كانت من طرف إمبراطورية إلى طرفها الآخر. كانت الإغاثة تأتي من أبناء الأمة الواحدة أو المعتقد الديني الواحد في مواجهة معتقدٍ آخر وعدو مشترك، ومن هنا لا نجد شبيهاً لقافلة الصمود الأممية التي يشارك فيها من الغرب والشّرق ومن العرب والعجم بتنوّع غير مسبوق.
بدأت فكرة أسطول الحرّية عام 2010 حيث شاركت فيه ثماني سفن، أبرزها سفينة مرمرة التّركية، وكان على متنها مئات الناشطين من جنسيات مختلفة، عربية وغير عربية، ولكن ليس بالتعددية الحالية الكثيرة، وتعرّضت لهجوم إسرائيلي أدى إلى استشهاد عدد من المشاركين الأتراك، اضطرت إسرائيل في نهاية الأمر إلى دفع تعويضات لعائلات ضحايا القرصنة. ولم تكن وقتها حرب إبادة جارية على قدمٍ وساق كما هو حال اليوم.
تلت أسطول الحرية محاولات لاحقة، ولكنها كانت صغيرة نسبيّاً، تعرّض الاحتلال لجميعها بالعدوان، ومصادرة المواد المحمولة، واعتقال الناشطين، ثم طردهم إلى بلدانهم.
وقد شارك في هذه الأساطيل فنانون وصحافيون وكتّاب وأعضاء برلمانات ومناضلون في مجال البيئة وحقوق الإنسان.
أسطول الصمّود الحالي، يتابعه مئات ملايين من البشر، فهو يبث تحرّكاته والمواقع التي انطلق منها، ومواقع استقباله على السّواحل والموانئ التي مر بها من أوروبا وشمال إفريقيا باتجاه قطاع غزة، ويبثُّ إلى العالم بعض نشاطات المشاركين، من هتافات وبيانات وغناء أو عزف للأغاني الثّورية المعروفة عالمياً.
كذلك يبثُّ ما يتعرّض له من تحرشات وتهديدات إسرائيلية، والمشاركون على تواصل مع المحاصرين في قطاع غزّة، الذين يتابعون تحرّك الأسطول بلهفة كبيرة.
منذ بداية العدوان، انتشرت في قطاع غزّة مساهمات الأطفال بشكل خاص ولافت، لتكشف عن قدرات مدهشة غير تقليدية لهؤلاء الأطفال، يتحدثون بطلاقة مبهرة في اللغة العربية الفصيحة، ويستظهرون الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والشّعر والمقولات، كذلك فإن كثيرين منهم يتوجّهون بنداءاتهم باللغة الإنكليزية بطلاقة، حيث أصبح لبعضهم ملايين المتابعين.
هنالك طفلة تتحدث بالإنكليزية «أنا اسمي بانياس، وأنا في التاسعة من عمري، أعيش في غزّة، أودّ أن أرحّب بكم يا أسطول الصّمود، الذي سيجلب الطعام والدواء لغزة، الأسطول يبعد عنا بضعة أيّام، هذا يقول إننا لسنا منسيين، لا تدعو الإسرائيليين يعتدون عليهم، أتوجّه لكل الناس حول العالم، لا تتركوا الأسطول يتعرّض لهجمات إسرائيلية، دعوه يصل إلى غزة بأمان. أنا أحبّكم من كلِّ قلبي، وأدعو الله أن يحفظكم، نحن نحبّكم، نحب كلَّ واحد منكم وننتظركم، وندعو الله أن يحفظكم».
هنالك مجموعات تنقل استعدادها للإبحار وهم يطلقون بلغات عدّة شعار «فلسطين حرّة».
الأسطول موضوعٌ ممتاز للفنانين في مجال صناعة أفلام الذكاء الصناعي، فرأينا الدلافين التي تسبح إلى جانب سُفن الأسطول، حتى لم نعد نميّز بين فعل الذكاء صناعي أو الطبيعي، ولكنها إبداعات مبهرة.
الصحافي التونسي سلمان زكري، أبدع في فيلم قصير يصوّر الحصار والإبادة، يظهر فيه أطفال غزّة والانفجارات الهائلة وسحب الدخان الأسود، أطفال ينتظرون وصول الأسطول برجاء، يرافقه غناء صحافيّة تركية لفلسطين.
هناك فيلم يظهر عشرات آلاف الغزيين يدخلون البحر وهم يهتفون للأسطول آملين وصوله.
حفيد نيلسون منديلا على إحدى سفن الأسطول: «نتطلع بشوق إلى إخواننا المحاصرين في غزة».
الناشطة السّويدية في مجال البيئة غريتا تونبرغ، سخرت من اتهام الاحتلال لها بمناصرة الإرهاب، وأعلنت من على إحدى سفن الأسطول: «لن نتوقّف. ومنع دخول هذه المساعدات إلى غزة مخالفٌ للقانون الدولي».
شبان أجانب يؤلفون أغنية راب بالإنكليزية، يختتمونها بـ «الحرّية لفلسطين».
الدلافين تثير البهجة لدى المسافرين. كذلك من الجميل أن ترى أزواجاً مشاركين في الأسطول.
أحد الشبان الغزيين يتلو رسالة موجهة باسم مئات آلاف المحاصرين على الشّاطئ، يحيي هؤلاء الذين قرّروا كسر الصمت في العالم: «لقد قمتم بالدور الذي يجب أن تقوم به دول وهيئات دولية»، «هؤلاء الأبطال قرّروا توصيل المساعدات الإنسانية ووضع حدٍّ للإبادة. جميع الناس هنا في غزّة بانتظاركم، نحن نحبكم».
رجل إيطالي متحمّس يحاول تلقين العرب الأغنية الإيطالية الثورية «بيلا تشاو بيلا تشاو»، ويختتمها بإضافة «فلسطين حرّة».
من ميناء سيدي بوسعيد التونسي، مشهد تقشعر له الأبدان لآلاف الرّايات الفلسطينية وتقديم قبّعات وهدايا من التّوانسة للمشاركين في الأسطول.
غناء باللهجة المغربية أغنية نادي الرجاء البيضاوي: «يا لي عليك القلب حزين، وهادي سنين تدمع العين، يا حبيبة يا فلسطين، آه يا وين العرب نايمين، آه يا زينة البلدان قاومي ربّي يحميك».
شابٌ تونسي يتلو دعاء السّفر ويردّد وراءه عشرات المشاركين على ظهر السّفينة. إلا أنّه جدّد وأضاف إلى الدعاء؛ من كآبة المنظر وسوء المنقلب بالمال والأهل والولد و»من سوء مناظر جنود الكيان الصهيوني».
شبان على سفينة ترفع علم الجزائر ينشدون أنشودة الشيخ إمام: «مُرّ الكلام زيّ الحسام يقطع مكان ما يمرّ… أما المديح سهل ومريح يخدع لكن بيضر».
من اللافت اسم سفينة مشاركة «دير ياسين»، وهو اسم القرية في منطقة القدس التي ارتُكبت فيها أبشع المجازر عام النكبة 1948، تعود دير ياسين من البحر على شكل سفينة إغاثة تحاول فك الحصار عن قطاع غزة، أحد المسافرين عليها شاب مغربي يوجّه رسالة وتحيّة إلى الشّعب المغربي وشعوب العالم مؤكّداً على سلمية الحركة.
ويقول: «هذه ساعات دقيقة جداً، وقد يحدث فيها أيُّ شيء». لعلّها أخطر مرحلة من المراحل التي مرت فيها قضية فلسطين وشعبها، بل وقضيّة العرب مع الاستعمار والاحتلال، قديمه وحديثه، بثوارها وعملائها وخونتها ومناصريها من أحرار العرب والعالم.