بينما تتحدث سلطة الانقلاب عن "حوار وطني شامل" و"إصلاح قضائي"، يرى الحقوقيون أن ما يجري على الأرض يعكس الوجه الحقيقي لنظام عسكري بوليسي لا يقبل إلا بالصمت التام — حتى من المحامين الذين يفترض أن يكونوا آخر خطوط الدفاع عن العدالة.
وفي خطوة وصفتها الأوساط القانونية بأنها سابقة مقلقة، صعّدت النيابة العامة المصرية من ضغوطها على المحامين المدافعين عن المعتقلين في القضايا ذات الطابع السياسي، موجهة لهم تهديدات مبطنة بالملاحقة في حال استمرارهم في نشر تفاصيل التحقيقات أو التعليق على سير الجلسات أمام نيابة أمن الدولة العليا.
مصادر قانونية وحقوقية كشفت أن الاتصالات التي جرت خلال الأيام الماضية شملت أكثر من خمسين محامياً من العاملين في منظمات حقوقية أو المستقلين المعروفين بترافعهم في قضايا الرأي والانتماء السياسي. وجاءت التحذيرات — التي صدرت من مسؤولين في مكتب النائب العام وأعضاء في النيابة نفسها — تحت لافتة "التنبيه العام بعدم مخالفة أحكام القانون"، إلا أن مضمونها بدا بوضوح أقرب إلى تهديد مباشر من سلطة بوليسية تسعى لإسكات ما تبقى من صوت الدفاع.
وقال أحد المحامين الذين تلقوا التحذير — رفض ذكر اسمه خشية الانتقام — إن وكيل النيابة أبلغه بضرورة التوقف فوراً عن نشر أي معلومات تتعلق بقضايا أمن الدولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مؤكداً أن النشر يُعدّ "تدخلاً في أعمال القضاء". وأضاف: "الرسالة كانت واضحة: من يتحدث سيُحاسب. النيابة تتابع صفحاتنا وتوثّق كل منشور، وكأننا نحن المتهمون".
تكميم حق الدفاع وتضييق جديد على الحريات
وأحدثت هذه التحذيرات موجة قلق وغضب في الأوساط القانونية، إذ يرى المحامون أنها تمثل تقييداً لحق الدفاع في التعبير وتوثيق ما يجري داخل أروقة التحقيق، لاسيما في القضايا التي تطال النشطاء والسياسيين والصحافيين.
أحد أعضاء نقابة المحامين أكد أن "ما جرى يضرب مبدأ الشفافية في مقتل، ويحوّل المحامين إلى متهمين إذا تجرأوا على الكلام"، مشيراً إلى أن ما يُنشر لا يتضمن أسراراً تحقيقية بل يهدف إلى كشف التجاوزات والانتهاكات داخل النيابة المعروفة بولائها للأجهزة الأمنية.
ورغم أن النقابة لم تتلقَّ إخطاراً رسمياً من النيابة العامة، إلا أنها تتابع الموقف بحذر وسط مخاوف من تصعيد جديد ضد المحامين، خصوصاً في ظل الطابع البوليسي الذي بات يهيمن على مؤسسات العدالة منذ انقلاب يوليو 2013.
محاولة لتكميم الحقيقة وتضليل الرأي العام
ويرى مراقبون أن تحركات النيابة تأتي في إطار نهج ممنهج لفرض التعتيم على القضايا السياسية ومنع تداول المعلومات التي قد تُدين النظام أمام الرأي العام المحلي والدولي، بعد أن أصبحت منشورات المحامين أحد المصادر القليلة للمعلومات الموثوقة في ظل خنق الإعلام المستقل وإغلاق المجال العام بالكامل.
ويؤكد حقوقيون أن النيابة العامة — المفترض أن تكون حامية لحقوق المواطنين — تحوّلت في عهد السيسي إلى ذراع من أذرع الدولة العسكرية البوليسية، تسعى لتكميم كل صوت ناقد حتى داخل أروقة العدالة.
تجميد الصفحات… والخوف من القادم
وبحسب مصادر قانونية، فإن بعض المحامين قرروا بالفعل تجميد نشاطهم على مواقع التواصل الاجتماعي خشية الملاحقة، فيما تمسك آخرون بحقهم في التعبير "ضمن الحدود القانونية" رغم تهديدات النيابة.
ويرجح قانونيون أن تكون هذه التحذيرات بداية لتوجه رسمي أكثر شدة يستهدف السيطرة الكاملة على المعلومات المتعلقة بعمل نيابة أمن الدولة العليا، في محاولة لحجب ما يجري خلف الكواليس من انتهاكات ضد المعارضين والمعتقلين السياسيين.