من منصة رابعة إلى زنزانة بدر 3: عقاب رمزي متعمد بحق أحد أبرز وجوه الثورة
رصدت منظمات حقوقية مصرية ودولية تدهورًا بالغًا في الحالة الصحية للدكتور محمد البلتاجي، البرلماني والقيادي البارز في ثورة 25 يناير، والمحبوس انفراديًا منذ أكثر من اثني عشر عامًا داخل سجن بدر 3، في ظروف وُصفت بأنها “عقابية وانتقامية”.
وكشفت الشبكة المصرية لحقوق الإنسان أن البلتاجي أصبح عاجزًا عن الحركة ويسير على كرسي متحرك بعد إصابته بفشل كلوي جزئي وارتفاع حاد في ضغط الدم، في ظل حرمانه من العلاج والرعاية الطبية الأساسية، مشيرة إلى أن آخر زيارة أسرية سُمح له بها تعود إلى عام 2015، ما يؤكد عزله الكامل عن العالم الخارجي.
وأكدت منظمات عدة، بينها مركز الشهاب لحقوق الإنسان وهيومن رايتس إيجيبت، أن ما يتعرض له البلتاجي يرقى إلى مستوى التصفية الجسدية البطيئة، عبر الإهمال الطبي المتعمد الذي يُمارس كسياسة ممنهجة ضد المعارضين السياسيين في مصر.
وقال مركز الشهاب إن وزارة الداخلية تتحمل المسؤولية القانونية الكاملة عن حياته، وطالب النائب العام بالتحقيق الفوري في ظروف احتجازه، ووقف ما وصفه بـ"نهج القتل البطيء" داخل السجون.
سر استهداف السيسى للبلتاجى بشكل خاص
لا يقتصر ما يتعرض له البلتاجي على كونه انتقامًا سياسيًا من معارض بارز، بل هو – بحسب مراقبين – عقاب رمزي لرجل يمثل أحد الوجوه الأكثر وضوحًا في ثورة يناير وفي اعتصام رابعة الذي رفض الانقلاب العسكري عام 2013.
فقد كان البلتاجي من أوائل من فضحوا عبد الفتاح السيسي حين كان رئيسًا لجهاز المخابرات الحربية، محذرًا من دوره في محاولات تفكيك الثورة وتهيئة المشهد للانقضاض على إرادة المصريين. وتشير مصادر سياسية إلى أن تحذيرات البلتاجي جاءت قبل ساعات من موقعة الجمل في فبراير 2011، التي سعت لقتل المتظاهرين في ميدان التحرير.
ويُجمع رفاقه ومتابعو الشأن السياسي على أن السيسي يكنّ عداءً شخصيًا للبلتاجي وللشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، إذ كانا من أبرز الأصوات التي حذّرت مبكرًا من “الخطر القادم من داخل المؤسسة العسكرية”، ورفضا بشكل قاطع أي دور سياسي للسيسي بعد الثورة.
عائلة دفعت الثمن مرتين
لم يتوقف العقاب عند حدود البلتاجي شخصيًا، بل امتد إلى أسرته. فقد قُتلت ابنته أسماء برصاص قوات الأمن خلال فض اعتصام رابعة، بينما يقبع نجله أنس في السجن منذ 12 عامًا. أما بقية أفراد العائلة فقد اضطروا إلى مغادرة البلاد خوفًا من الملاحقة الأمنية، في مشهد يعكس الطابع الانتقامي للعقاب المفروض على أحد أبرز رموز الثورة المصرية.
الإهمال الطبي.. سياسة ممنهجة
تؤكد منظمات حقوقية أن حالة البلتاجي ليست استثناءً، بل جزء من نمط واسع النطاق من الانتهاكات داخل السجون المصرية، حيث يُستخدم الإهمال الطبي كأداة لـ"القتل البطيء".
ففي السياق نفسه، وثقت منظمات مصرية تدهورًا خطيرًا في الحالة الصحية للدكتور عبد الناصر مسعود سالم يوسف، أستاذ العلوم بجامعة طنطا، والمحتجز في سجن المنيا منذ عام 2015، بعد تعرضه لأزمات عصبية متكررة نتيجة غياب الرعاية الطبية.
كما رصدت منظمات أخرى معاناة المحامية هدى عبد المنعم والمترجمة مروة عرفة، اللتين تواجهان ظروفًا قاسية وحرمانًا متعمدًا من العلاج، رغم تجاوزهما المدد القانونية للحبس الاحتياطي.
منظومة قانونية مُفرغة من مضمونها
ورغم أن الدستور المصري (المواد 18 و55 و56) يكفل الحق في الرعاية الصحية والكرامة الإنسانية للمحتجزين، فإن التقارير الحقوقية تؤكد أن السجون المصرية تحوّلت إلى مناطق استثناء قانوني، تُعطّل فيها القوانين وتُمارس فيها الانتهاكات دون مساءلة أو رقابة.
وتشير شهادات السجناء وذويهم إلى أن الإهمال الطبي يتجلى في:
منع الدواء أو تأخيره لأيام.
رفض الإفراج الصحي حتى في الحالات الحرجة.
حرمان السجناء من التريض والتعرض للشمس.
غياب الكوادر الطبية والتخصصات داخل السجون.
التستر على أسباب الوفاة داخل أماكن الاحتجاز.
أيقونة يناير تصمد رغم الألم
رغم سنوات العزلة والمرض، يظل الدكتور محمد البلتاجي أحد أكثر الرموز الثورية حضورًا في الذاكرة المصرية. صوته الذي دوّى من منصة رابعة، وعبارته الشهيرة بأن “دماء المصريين جميعًا حرام”، لا يزالا شاهدين على تمسكه بمبادئ ثورة يناير، في وقت يسعى فيه النظام إلى طمس رموزها ومعانيها.
إن ما يتعرض له البلتاجي اليوم ليس مجرد إهمال طبي، بل جريمة سياسية مكتملة الأركان، هدفها محو رمز من رموز الكرامة الوطنية ورفض الاستبداد.