دخلت القاهرة في حالة استنفار استخباري وعسكري غير معلنة عقب سيطرة مليشيا "الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) على مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، غربي السودان، في تطور ميداني يفتح الباب أمام تهديد مباشر للأمن القومي المصري من الجنوب الغربي، خاصة في ظل الدعم الإماراتي الموثّق لتلك المليشيا، والذي يحوّل دارفور إلى ساحة نفوذ جديدة لأبوظبي على حدود مصر.
وبحسب مصادر مصرية مطلعة، فإن أجهزة الأمن والجيش رفعت مستوى التأهب تحسبًا لتداعيات السيطرة الكاملة لـ"الدعم السريع" على الفاشر، لما يعنيه ذلك من فتح مسارات جديدة لتهريب السلاح والمقاتلين والذهب نحو ليبيا ومصر، ما يشكّل ضغطًا أمنيًا واقتصاديًا متزايدًا على الدولة المصرية.
لكن المفارقة – بحسب مراقبين – أن هذا التهديد المتصاعد يأتي في وقت يواصل فيه عبد الفتاح السيسي سياسة الخضوع للإملاءات الإماراتية، متجاهلًا ما يمثّله النفوذ العسكري والمالي لابن زايد في السودان من خطر مباشر على الحدود المصرية.
تهديد استراتيجي للجنوب الغربي المصري
مدينة الفاشر التي سقطت مؤخرًا كانت آخر معاقل الجيش السوداني في إقليم دارفور، وسقوطها يعني أن "الدعم السريع" بات يسيطر فعليًا على الإقليم الغني بالذهب، ويقترب من خطوط التهريب المؤدية إلى المثلث الحدودي بين مصر وليبيا والسودان.
هذا التطور الخطير، وفق محللين، يضع القاهرة أمام معضلة حقيقية: إما مواجهة تمدد قوة مسلحة مدعومة من الإمارات على حدودها، أو الاستمرار في الصمت حفاظًا على "علاقاتها الخاصة" مع أبوظبي، التي تموّل وتسلّح تلك المليشيات منذ بداية الحرب في أبريل/نيسان 2023.
الكارثة الإنسانية في الفاشر
السفير حسام عيسى، مدير إدارة السودان وجنوب السودان بوزارة الخارجية المصرية، وصف الوضع في الفاشر بأنه "كارثي بكل المقاييس"، مشيرًا إلى أن المليشيات شنت قصفًا عشوائيًا على المدنيين، استهدف مدارس ومستشفيات وملاجئ للنازحين، ما أدى إلى مقتل أكثر من مئة مدني خلال أيام قليلة.
وأشار عيسى إلى أن مصر تواصل دعمها لـ"المؤسسات الشرعية" في السودان، أي الجيش بقيادة البرهان، إلا أن هذا الدعم يبدو سياسيًا أكثر منه عمليًا، في ظل غياب موقف مصري حازم تجاه دور الإمارات التي تموّل "الدعم السريع" وتعمّق مأساة دارفور.
حدود رخوة وضغط إنساني
الحدود المصرية–السودانية الممتدة لأكثر من ألف كيلومتر، باتت مصدر قلق متصاعد لأجهزة الأمن المصرية، مع ازدياد عمليات التهريب وتدفّق اللاجئين.
وقد تجاوز عدد السودانيين الفارين إلى مصر المليون ونصف لاجئ، يعيش أغلبهم في ظروف قاسية، وسط تردّد حكومي في الاعتراف بحقوقهم أو تقديم الدعم الكافي، ما يفاقم التوتر الاجتماعي في الجنوب والقاهرة.
إلى جانب ذلك، تحذر تقارير أمنية من أن تهريب الذهب والسلاح من مناطق سيطرة "الدعم السريع" بات يشكل مصدر تمويل رئيسي للحرب، وأن هذه الشبكات تستخدم الأراضي المصرية كأحد مساراتها، ما يضع القاهرة في موقف بالغ الحساسية.
تناقض السياسة المصرية
في الوقت الذي يعلن فيه النظام المصري التزامه بـ"وحدة السودان"، يواصل السيسي غض الطرف عن الدور الإماراتي التخريبي هناك، مكتفيًا بتصريحات دبلوماسية جوفاء، بينما تتغلغل أبوظبي في قلب الجغرافيا السودانية، وتتحول تدريجيًا إلى القوة الفاعلة على حدود مصر الجنوبية.
ويرى خبراء أن هذا الموقف يعكس تبعية سياسية خطيرة؛ إذ يفضّل السيسي الحفاظ على ولائه لمحمد بن زايد مقابل مساعدات مالية واستثمارات، ولو على حساب الأمن القومي المصري نفسه.
خطر متصاعد واستنفار متأخر
تحذيرات الأجهزة الأمنية المصرية من تمدد الفوضى إلى الحدود الجنوبية ليست جديدة، لكن استجابة النظام تبدو متأخرة وضعيفة، تفتقر إلى رؤية استراتيجية مستقلة.
ففي ظل استمرار الدعم الإماراتي لحميدتي، وتحول دارفور إلى منطقة نفوذ خارجة عن سيطرة الخرطوم، قد تجد مصر نفسها قريبًا أمام تهديد أمني وإنساني متفجر، بينما يصر السيسي على البقاء في موقع التابع الذي لا يجرؤ على مواجهة من يموّله.
ليست مجرد تطور ميداني
سيطرة "الدعم السريع" على الفاشر ليست مجرد تطور ميداني في حرب داخلية سودانية، بل مؤشر على تمدد النفوذ الإماراتي في خاصرة مصر الجنوبية، وسط صمت النظام المصري الذي وضع أمنه القومي رهن إرادة ابن زايد، في مشهد يعكس عمق التبعية وغياب القرار المستقل في أخطر ملفات الأمن الإقليمي.