في مشهد يعكس اختلال الأولويات الاقتصادية والاجتماعية في مصر، تتسارع وتيرة هجرة العمالة المصرية الماهرة إلى الخارج، وفي مقدمتها السعودية، التي باتت تستقطب الكفاءات الفنية بعد استحواذها على أصول اقتصادية مصرية، بينما يواصل نظام عبد الفتاح السيسي إنفاق مليارات الجنيهات على مؤسسات الجيش والشرطة والقضاء، على حساب العمال والمهنيين الذين تُركوا يواجهون الغلاء غير المسبوق بلا حماية أو أفق.
ويؤكد عاملون ومختصون أن العمالة المصرية، رغم الإقبال السعودي عليها، تعاني من مشكلات جسيمة داخل سوق العمل بالمملكة، من بينها تأخير سداد الأجور، وتغيير صيغ العقود في بعض الحالات، وضعف قدرة العامل على تقديم شكوى ضد صاحب العمل، خشية التعرض لأشكال مختلفة من الاستغلال في ظل غياب رقابة فعالة داخل منظومة العمل.
فرص استقدام يقابلها تسريح وسعودة
المهندس المصري المقيم في الرياض، ربيع (أ)، أوضح أن القرار السعودي الأخير بشأن استقدام العمالة الفنية «ليس جديداً، وإنما جرى تجديده بصيغة توحي وكأنه يصدر للمرة الأولى»، مشيراً إلى أن الحكومة السعودية منحت المنشآت الصناعية إعفاءات تتراوح بين 9 و12 ألف ريال من رسوم استقدام العامل الفني، بشروط ومواصفات محددة وبأعداد معينة لكل منشأة، بهدف تشجيع استقدام العمالة الفنية الماهرة.
وأوضح، في تصريحات صحفية ، أن رواتب العمالة المصرية العادية تتراوح بين 1500 و2000 ريال شهرياً، بينما تصل رواتب المتخصصين في مجالات مثل الميكانيكا والهيدروليك والخراطة واللحام والكهرباء إلى ما بين 4 و5 و6 آلاف ريال في بعض المصانع، في حين يحصل المهنيون العاملون بشكل حر على دخل يتراوح بين 3 و4 آلاف ريال.
لكن هذه الفرص، بحسب ربيع، تقابلها أعباء مالية باهظة يتحملها المصريون للحصول على عقد عمل في السعودية، إذ قد يتكلف المدرس المصري نحو 12 ألف ريال للحصول على عقد بمدرسة، إضافة إلى 400 ريال عن كل فرد من أسرته عند الاستقدام. كما أشار إلى أن بعض المنشآت الصغيرة تستقدم عمالة بنظام "الفيزة الحرة"، حيث يدفع العامل ما بين 15 و20 ألف ريال، ثم يعمل بشكل غير قانوني مقابل اقتطاع شهري لصالح صاحب المنشأة.
وفي المقابل، يشير ربيع إلى أن المصريين يواجهون حملات تسريح واسعة بسبب سياسات "السعودة"، خاصة في قطاعات التعليم والصحة، حيث تشهد المستشفيات عمليات هيكلة شاملة عبر شركات قابضة، تشمل خفض الرواتب والحوافز، واستبعاد من يرفض الشروط الجديدة، مع فرض فحوصات طبية سنوية.
فجوة الأجور بين بلدين بواقعين مختلفين
تعكس المقارنة بين أجر العامل الفني المتخصص في السعودية ونظيره في مصر فجوة هائلة بين اقتصادين يعملان في ظروف متباينة جذرياً. فبينما تُعد مصر الأقدم صناعياً في المنطقة العربية والأكثر تنوعاً من حيث سوق العمل، إلا أنها تعاني أزمات هيكلية وبنيوية وعجزاً مالياً مزمناً. في المقابل، تتمتع السعودية بقدرات مالية واستثمارية ولوجستية وتكنولوجية متقدمة.
وبحسب بيانات 2024 وتوقعات 2025، تتصدر السعودية الدول العربية في الإنتاج الصناعي، تليها الإمارات ثم مصر، فالمغرب وقطر والجزائر. وتتفوق السعودية في حجم الإنتاج الصناعي المدفوع بالقطاع النفطي وصناعات البتروكيماويات والمعادن، بينما تتميز مصر بتنوع صناعي أكبر، خاصة في الصناعات الغذائية والنسيجية، لكنها تواجه تحديات قاسية أبرزها نقص العملة الصعبة.
ويحصل العامل الفني المتخصص في مصر، حتى في القطاعات الأعلى أجراً مثل البترول والغاز والأدوية، على ما بين 15 و35 ألف جنيه شهرياً، بينما يتقاضى نظيره في السعودية ما بين 6 و12 ألف ريال، أي ما يعادل 80 إلى 160 ألف جنيه مصري، إلى جانب مزايا إضافية تشمل السكن، والتنقل، والتأمين الطبي، وتذاكر الطيران، ومكافآت نهاية الخدمة.
في المقابل، تظل هذه المزايا محدودة في مصر، حيث يعتمد العامل على "بدل الإنتاج" والعمل الإضافي، في ظل نضال النقابات لفرض حد أدنى للأجور لا يتجاوز 7 آلاف جنيه، وسط تآكل مستمر للقوة الشرائية بفعل التضخم ورفع الدعم عن الوقود والكهرباء.
بين الترحيب والرفض
وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، رأى محلل النمذجة والتقييم المالي محمد البكر أن السوق المصرية تخرج سنوياً ما بين 1.5 و1.8 مليون خريج من التعليم الجامعي والفني، وهو رقم لا يمكن للسوقين المصري والسعودي استيعابه معاً، منتقداً الحديث عن منافسة بين البلدين على العمالة الفنية.
وأشار إلى أن هجرة العمالة المصرية تعود إلى عوامل داخلية، من بينها جشع أصحاب الأعمال، وسوء الإدارة، وغياب العدالة الاجتماعية، وضعف هيكل الأجور، معتبراً أن القرار السعودي يمثل فرصة حقيقية للعمالة الفنية المصرية لتحسين دخلها والعمل في بيئة صناعية متقدمة.
في المقابل، حذّر الناشط رياض عزالدين من النظر إلى القرار السعودي من زاوية تحويلات العملة الأجنبية فقط، معتبراً أنه يضر بالمشروع الصناعي المصري. وأشار إلى أن أصحاب المصانع في مصر يعانون من ارتفاع تكاليف الإنتاج والضرائب والإيجارات، وضعف القوة الشرائية، لافتاً إلى أن انخفاض الأجور يمثل الميزة التنافسية شبه الوحيدة للصناعة المصرية، وأن فرض زيادات كبيرة عليها قد يؤدي إلى تراجعها وخسائر أوسع.