مع الساعات الأخيرة من 2019 التي يعتبرها البعض كبيسة، أصر شاب في العشرينيات من العمر، صباح أمس الأربعاء بمنطقة حدائق حلوان (جنوب شرق القاهرة)، على الانتحار شنقًا بتعليق نفسه في فرع شجرة على طريق كورنيش النيل بحدائق حلوان، فيما شهدت إمبابة قيام شاب يبلغ من العمر 17 عاما، بالانتحار عبر إلقاء نفسه من أعلى سطح منزله، ما أسفر عن مصرعه، وذلك جراء إصابته بأزمة نفسية؛ بسبب تردي الأحوال المعيشية والاقتصادية على مستواه الشخصي وفي البلاد عمومًا بفعل الانقلاب العسكري وسياساته الفاشلة.
ليؤكِّد الاثنان بانتحارهما تحول سلوك الانتحار من مرض نفسي يتسبب في أن يعلق المنتحر نفسه في سقف غرفته نتيجة اكتئاب، إلى إرسال رسالة علنية قد يكون هدفها- بحسب المختصين في علم الاجتماع السياسي- سببين رئيسيين: إما الظلم أو الفقر أو كلاهما.
وهو ما كشف عنه أيضا انتحار محام من أعلى مجمع محاكم الإسكندرية، وانتحار طبيب مُسن في المحافظة نفسها.
لذلك يرى الدكتور فاروق القرموطي، أستاذ الصحة النفسية بجامعة الإسكندرية على الفيسبوك، أن مما يعضد هذين السببين تحديدا أن معدل الانتحار أعلى بحوالي 4 أضعاف بين الذكور عنه بين الإناث، لكن الإناث يحاولن الانتحار 3 مرات أكثر من الذكور، و90% من المنتحرين مكتئبون نفسيًّا، والبقية يعانون المرض العقلي.
درجة متقدمة
مصر الآن في المرتبة 152 من أصل 183 دولة بحسب تقرير (منظمة الصحة العالمية 2016)، وفي مقدمة الدول العربية في معدلات الانتحار بـ3799 منتحرا، عام 2016، حسب المنظمة نفسها.
وبعد انتحار طالب الهندسة “نادر محمد جميل”، بإلقاء نفسه من فوق برج القاهرة، والذي يبلغ ارتفاعه 187 مترا، وذلك بسبب معاناته من الظروف المعيشية والدراسية، وسط حالة من الاستياء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، سعت دار الإفتاء المصرية، في ٣ ديسمبر الماضي، إلى تهمش أسباب الانتحار، وتحدثت عن الـ10% من المنتحرين (المرض العقلي) والتي اعتبرتهم الدار قد ارتكبوا كبيرة، ولكن “المنتحر ليس بكافر”، في وقت لام فيه المصريون- على مواقع التواصل الاجتماعي- على من أوصل الشباب للانتحار.
موظَّفو دار الإفتاء الذين يفترض أنهم يحملون رسالة للعالمين، يغيب عنهم أن عدد المنتحرين سنويا فى العالم 800 ألف إنسان، لذلك اتسقت “الافتاء” مع تصريحات الأذرع الإعلامية ومنها مصطفى بكري، الذي اعتبر أن الإخوان وراء تسريب مشهد انتحار طالب الهندسة، وتجاهل أنه بالتزامن مع انتحاره كانت هناك ثلاث حالات في اليوم نفسه، منها طالب هندسة القاهرة أسفل عجلات المترو. فقالت دار الإفتاء “لا ينبغي إيجاد مبررات وخلق حالة من التعاطف مع هذا الأمر، وإنما التعامل معه على أنه مرض نفسي يمكن علاجه من خلال المتخصصين”.

غضب مؤجل
كم الانتحار الذي انطلق بعد سنوات قليلة من انتحار ثورة يناير، يقول عنه الدكتور محمد طه، الطبيب النفسي: “هو فى الحقيقة مش عاوز يموت نفسه.. هو عاوز يموت حد تانى.. حد جواه.. حد عايش فى عالمه الداخلى.. حد فى حياته وواقعه الحالى أو الماضى عامله أزمة كبيرة.. حد تسبب ليه فى صدمة نفسية أو عاطفية أو معنوية مش عارف يتخطاها”.
وأضاف “هو يغضب من اللى أذوه بتوجيه غضبه ليه هو.. وهى تكره اللى قسوا عليها بإنها تكون قاسية على نفسها.. وهما الاتنين ينتقموا من اللى شوهوهم بالانتقام من أنفسهم.. ماهم مش عارفين يعملوا إيه.. حاولوا مرة واتنين.. عبروا عن اللى جواهم ومانفعش.. جربوا ياخدوا حقوقهم وماقدروش.. قاوموا لغاية ما جابوا آخرهم.. يبقى مافيش قدامهم غير نفسهم.. تقطعت بهم السبل إلا إلى داخلهم”.
وخلص، في منشور طويل عن تحليل الحالة النفسية للمنتحر، إلى أن “قرار الانتحار مش قرار وليد اللحظة.. يعنى مش فكرة بتطق مرة واحدة فى دماغ حد ويقوم ينفذها فورا.. لأ.. قرار الانتحار الحقيقي بيكون متاخد من قبلها بكتير جدا.. ربما بسنوات.. وأحيانا منذ الطفولة.. لكنه بيفضل قرار مؤجل.. ويفضل الشخص فى حالة تفاوض بائس مع العالم.. فى حالة أخد وعطاء يائسة مع الناس”.
أفكار انتحارية
يتحدث خبراء الصحة النفسية عن شيوع أفكار الانتحار كالتردي من أعلى مكان عالٍ، أو حبوب حفظ الغلال، وكان الشائع منها قديما في مصر “سم الفئران”، وهي عبارة عن تناول كميات كبيرة من عقار “الوارفرين” المسبب لسيولة الدم، ويستخدمه بشكل دائم مرضى القلب ممن يعتمدون على الصمامات البلاستيكية الصناعية، وتناول الكمية المشار إليها يسبب لاحقا جلطة تفضي لموت الإنسان أو عدم إدراك المحيطين للمنتحر إذا قام بجرح نفسه.
يقول الدكتور محمود القرموطي: إن الانتحار هو السبب الرئيسي الثاني للوفاة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و 24 عامًا، لكنه السبب الرئيسي العاشر للوفاة بين إجمالي السكان. على الرغم من أن الأسلحة النارية هي الطريقة الأكثر استخدامًا للوفاة بالانتحار، إلا أن أكثر الطرق شيوعًا التي يستخدمها المراهقون هي الشنق والقفز من الأماكن المرتفعة والجرعات الزائدة من الحبوب أو السموم الأخرى.
انتحارات ديسمبر
وشهد الشهر المنصرم ديسمبر 2019، عشرات الحالات من بينها إقدام تاجر أقمشة، 38 عاما، على الانتحار بمركز بمحافظة بالشرقية، لمروره بأزمة مالية.
منها شاب في العشرينيات من عمره بمركز المحمودية بالبحيرة على الانتحار، بعد مروره بخلافات أسرية، مستخدمًا حبوب حفظ الغلال السامة، وشهد نفس المركز حالة انتحار طفل في المرحلة الإعدادية؛ لخلافات أسرية أيضا.
ولقي فلاح مصرعه بإحدى قرى محافظة المنوفية، جراء إصابته بحالة تسمم بسبب خلافات عائلية.
كما لقيت طالبة بالصف الثاني الثانوي بإحدى قرى مركز تلا بمحافظة المنوفية مصرعها نتيجة مرورها بضائقة نفسية.
وفي كفر الشيخ، لقيت طالبة بالصف الثاني الإعدادي مصرعها، إثر تناولها حبة حفظ الغلال المعروفة بـ”الفوسفورية” أو “الحبة القاتلة”، داخل منزل أسرتها بقرية شباس الشهداء، التابعة لمركز دسوق، جراء مشادة أبوية بسبب المذاكرة.
المحافظات الأعلى
وأفاد تقرير رسمي مصري بأن محافظة المنوفية (دلتا النيل) شهدت ألفا و183 محاولة انتحار في عام 2019.
وأشار التقرير الذي أصدره قسم الطب الشرعي والسموم الإكلينيكية بجامعة المنوفية، إلى وفاة 200 حالة منهم، كان معظمهم جراء التسمم بفوسفيد الألومنيوم أو ما تعرف بـ “حبة حفظ الغلال”.
وقالت الدكتورة “صفاء عبد الظاهر”، رئيس القسم التابع لكلية الطب: إن حالات الانتحار توزعت بين 382 من الذكور، و801 من الإناث من مختلف الأعمار.
وأوضحت أن عدد الحالات من سن 10 سنوات إلى 18 سنة قد بلغ 455 حالة، بينما بلغ عدد الحالات من سن 19 إلى 40 سنة 564 حالة، ومن سن فوق 40 سنة 164 حالة.
وشهدت مدينة “شبين الكوم” الكم الأكبر، حيث وصل عدد الحالات بها إلى 291 حالة خلال 2019، كما استقبلت وحدة السموم 44 حالة من خارج المنوفية.
وشهدت محافظة الإسكندرية، خلال عام 2019 العديد من حالات الانتحار، حيث بلغت أعدادها 12، بينهما 4 حالات فقط خلال شهر فبراير.