العسكر يواصلون معركتهم ضد الوعي. .. لماذا يريد السيسي تحويل سور الأزبكية لمول تجاري؟

- ‎فيتقارير


في خطوة اعتبرها مثقفون "عدواناً على روح القاهرة"، بدأت سلطة الانقلاب تنفيذ مخطط لنقل بائعي الكتب من محيط سور الأزبكية التاريخي إلى أكشاك بديلة، تمهيداً لتحويل المكان إلى مركز تجاري لبيع الملابس والأحذية والإكسسوارات.

 وبينما تروّج الحكومة لهذه الخطوة باعتبارها "عملية تطوير"، يرى كثيرون أنها استمرار لسياسات عسكرة المجال العام، وتحويله إلى أداة ربحية خالية من أي بعد ثقافي أو تنويري.

ذاكرة القاهرة تُستبدل بالإعلانات

كان سور الأزبكية، منذ بدايات القرن العشرين، رئة ثقافية مفتوحة، تتيح للقراء من مختلف الطبقات الاجتماعية الوصول إلى الكتب بأسعار زهيدة، ورغم إهماله الرسمي لسنوات، بقي هذا السور رمزاً لصمود الثقافة في وجه السوق، قبل أن تسارع السلطة الحالية إلى إغلاق صفحته وتحويله إلى "مشروع استثماري". الخطوة ليست معزولة، بل تتناغم مع نهج واضح يعتمد على تصفية المشهد الثقافي العام لصالح عقلية عقارية ومجتمعات استهلاكية لا مكان فيها للكتاب.

المثقفون يتحدثون: استهداف مُنظّم للثقافة

يقول الكاتب والمفكر شريف يونس: إن "السلطة العسكرية في مصر لا تثق بالثقافة المستقلة، لأنها تخلق وعياً قد يخرج عن النص الرسمي، ولذلك فهي تفضل الاستثمار في ملاعب الكرة والمولات، وليس في المكتبات أو مراكز الإبداع"، ويرى يونس أن ما يحدث في سور الأزبكية يندرج ضمن "سياسة ممنهجة لعزل الثقافة عن الناس، وتجفيف منابع الوعي الشعبي".

أما الباحث والمترجم محمد أبو الغيط (رحمه الله) فقد أشار في وقت سابق إلى أن "النظام الحالي، مثل سابقيه من الأنظمة العسكرية، يعتبر الثقافة المستقلة تهديداً، لأنها تطرح أسئلة، بينما السلطة لا تريد إلا الإجابات الجاهزة".

الناقد الأدبي صبحي موسى قال": "ما يحدث هو محاولة لقتل ما تبقى من ذاكرة المدينة، الأزبكية ليست مجرد رصيف لبيع الكتب، بل كانت منبراً لتبادل الأفكار، ومنصة للارتقاء الاجتماعي عبر المعرفة، تحويلها إلى مول هو إعلان عن انتصار السوق على العقل".

عداء تاريخي للفكر... من عبد الناصر حتى السيسي

لم يكن عداء العسكر للفكر وليد اليوم، فمنذ حركة يوليو 1952، التي قادها الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر، بدأت مرحلة جديدة من الهيمنة على المجال الثقافي، أُغلقت صحف، وصُودرت كتب، وأُخضعت المؤسسات الثقافية لإشراف أمني مباشر، ورغم وجود مشاريع ثقافية في عهد عبد الناصر مثل هيئة الكتاب والمجلس الأعلى للثقافة، إلا أن الخط العام كان موجهاً لخدمة الخطاب الرسمي لا فتح المجال للرأي الآخر.

وفي عهد السادات، استُخدمت الثقافة كأداة دعائية، بينما شهد عهد مبارك موجة خصخصة صامتة للثقافة، تمثلت في تهميش دور قصور الثقافة وتراجع الدعم للكتاب والفنانين المستقلين، أما مع وصول المنقلب عبد الفتاح السيسي إلى السلطة، فقد دخلت الثقافة مرحلة جديدة من "العسكرة الكاملة"، عبر تعيين قيادات أمنية أو موالية في المواقع الثقافية، وفرض رقابة غير معلنة على النشر، وتحجيم دور المثقفين المستقلين، واعتقال بعضهم أو دفعهم إلى المنفى.

اقتصاد المعرفة خارج الحسابات

يقول د. هشام جعفر، الباحث في علم الاجتماع السياسي: "السلطة في مصر تنظر إلى المعرفة كترف، لا كأداة للبقاء والتقدم، وهذا جزء من أزمة بنيوية في عقل الدولة العسكرية، التي تفضل السيطرة على التنوير، وتحاصر المثقفين بالرقابة أو التهميش أو التهديد".

ويضيف جعفر "الدول التي تحترم نفسها تضع الثقافة في قلب سياساتها التنموية، بينما في مصر نرى العكس تماماً: تقليص موازنات الثقافة، وإغلاق مساحات النقاش الحر، مقابل تمويل ضخم لاحتفالات دعائية أو مشروعات غير منتجة فكرياً".

القاهرة تُفرّغ من هُويتها

يرى باعة الكتب أن ما يحدث هو إعلان نهاية لعلاقة طويلة بين المكان وسكانه، يقول السيد أحمد، أحد البائعين: "نحن لا نبيع سلعة استهلاكية، بل نشارك الناس في بناء وعيهم، حين يُغلق هذا المكان، يخسر الجميع: القارئ، والبائع، والمجتمع"، ويؤكد أن تحويل سور الأزبكية إلى مركز تجاري لا يمثل فقط تهجيراً لأصحاب المكتبات، بل أيضاً قطعاً صريحاً مع ذاكرة المدينة وتاريخها المعرفي.

في النهاية... المعركة على الوعي مستمرة

منذ نشأته، مثّل سور الأزبكية شكلاً من أشكال المقاومة اليومية ضد الجهل والغلاء والانغلاق، واليوم، في ظل استبداد رأسمالي عسكري، يتحوّل إلى ضحية جديدة في معركة مستمرة على الوعي. فبينما تسوّق السلطة قراراتها بوصفها "تنظيماً"، يدرك الجميع أنها مجرد صفحة جديدة من حرب طويلة ضد الفكر الحر.