بقلم / *محمد عايش
من المؤكد أنَّ اعتراف عدد من الدول الكبرى، وعلى رأسها بريطانيا وكندا، بدولة فلسطين هو تطور بالغ الأهمية في مسار النضال الفلسطيني، ودليل ذلك أنَّ إسرائيل استشاطت غضباً لهذا القرار، وبذلت مجهوداً كبيراً لثني هذه الدول عن الاعتراف، إذ لو كان هذا القرار بلا فائدة، أو مضمون أو انعكاسات لما اكترث له الإسرائيليون وحسبوا له كل هذه الحسابات.
اعتراف بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال، والدول التي ستتبع خلال أيام، هو الموجة الثانية بعد “طوفان الأقصى” للاعتراف بالدولة الفلسطينية على مستوى العالم، حيث في العام الماضي شهد العالم موجة أولى شملت إسبانيا وإيرلندا ودولا أخرى. وكل هذا الحراك العالمي، إنما هو تحول كبير في الموقف مما يجري، وجاء انعكاساً للحرب الدموية التي تستهدف قطاع غزة، التي بات العالم مقتنعاً بأنها “حرب إبادة” تهدف إلى التصفية الكاملة للقضية الفلسطينية.
ثمة تحول كبير في الموقف السياسي الدولي مما يجري في الأراضي الفلسطينية، ومن يعيش في الدول الغربية يلمس ذلك يومياً وبوضوح، ففي بريطانيا -على سبيل المثال- كانت الحكومة ترفض مجرد المطالبة بوقف إطلاق النار، وترفض إدانة الحرب الإسرائيلية على غزة، بل في بداية هذه الحرب ذهب رئيس الوزراء السابق على متن طائرة شحن عسكرية، لتقديم الدعم للإسرائيليين، فيما أصبحت بريطانيا اليوم تفرض عقوبات (وإن كانت بسيطة) على إسرائيل، تتضمن تقييد بيع الأسلحة لتل أبيب. يتساءل كثيرون عن جدوى الاعتراف بالدولة الفلسطينية من جانب الدول الكبرى، وما الذي يُمكن أن يحدث تبعاً لذلك، والحقيقة أن هذا الاعتراف يعني جملة من الأشياء، وفي ما يلي أبرزها:
أولاً: هو نتيجة لتحول كبير في الرأي العام العالمي، وتغير استراتيجي في مواقف الدول الكبرى تجاه إسرائيل ودعمها لها، وهذا معناه أن هذه القرارات ستكون متبوعة بمزيد من إجراءات تعرية إسرائيل ودعم الفلسطينيين. ومن المهم الاعتراف بأن رأي الشارع في الدول الديمقراطية، يلعب دوراً مهماً في دفع الحكومات لهذه القرارات، وهو ما يؤكد أن الرأي العام عموماً قد تغير لصالح الفلسطينيين في هذه الدول.
ثانياً: اعتراف بريطانيا بالدولة الفلسطينية له دلالة ورمزية لا يُمكن تجاهلها، فبريطانيا هي التي أسست إسرائيل، وهي التي دعمتها وسلمتها الأراضي الفلسطينية، وهي التي نظمت الهجرة اليهودية نحو فلسطين في بدايات القرن الماضي، كما أنها أصدرت “وعد بلفور”، الذي كان بمثابة وثيقة التأسيس للدولة العبرية. وهذا كله يعني أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو تراجع ضمني عن سياسة بريطانية استمرت أكثر من مئة عام.
ثالثاً: الاعتراف بالدولة الفلسطينية يأتي ليكون تتويجاً لجهود الجاليات العربية والمسلمة في هذه الدول، وهي جهود لا يُنكرها إلا جاحد، ففي بريطانيا بعث “مؤتمر الجالية العربية” بأول رسالة إلى رئيس الوزراء في ديسمبر/كانون الأول 2023 يُطالبه فيها بموقف مؤيد لوقف إطلاق النار، ثم بعث برسالتين لاحقاً شرح فيهما الوضع في الأراضي الفلسطينية، وكانت تلك المراسلات بموازاة حملة كان وما يزال يقودها رجل الأعمال الفلسطيني المعروف منيب المصري، لمطالبة بريطانيا بالتراجع عن وعد بلفور والاعتذار عنه، والاعتراف بأنها أخطأت بحق الشعب الفلسطيني. وبموازاة ذلك كله كان الناشطون المؤيدون للشعب الفلسطيني في بريطانيا ينزلون إلى الشارع كل أسبوع ومعهم الآلاف من أجل التنديد بما يقوم به الاحتلال.
رابعاً: هذه الموجة من الاعترافات العالمية بفلسطين تؤكد، أن النضال الفلسطيني هو عمل تراكمي، وأن الحرب على غزة وما سبقها كان في هذا السياق، وأن من يقيس العمل النضالي بالقطعة ينتهي بالضرورة إلى أحكام خاطئة، فلا يُمكن الحكم على حدث ما بمعزل عن سياقه وبعيداً عن غيره، ولا يُمكن دراسة ما يجري في فلسطين من دون دراسة الظروف المرافقة وما حدث سابقاً.. وهكذا فإن التضحيات التي قدمها الفلسطينيون في غزة خلال العامين الأخيرين، انتهت إلى أن يعترف العالم بالفلسطينيين خلافاً للرغبة الإسرائيلية بإبادة هذا الشعب ومحوه عن الخريطة.
خلاصة القول، إن الاعتراف بدولة فلسطين من قبل بريطانيا وكندا وأستراليا وعدد من الدول المهمة في العالم يُشكل خطوة بالغة الأهمية في إطار مساعي التحرر التي يبذلها الشعب الفلسطيني، مدعوماً بالمتضامنين معه في كل أنحاء العالم، وهذا الاعتراف دليل جديد على أن المظاهرات الأسبوعية والفعاليات الاحتجاجية، وكل التحركات السلمية التي يشهدها العالم للتضامن مع فلسطين، تؤتي ثماراً في هذا السياق، كما إنها من ثمار التضحيات التي قدمها الفلسطينيون في الداخل أيضاً، وكل هذه الجهود تُكمل بعضها بعضاً.
* كاتب فلسطيني