للّون الأزرق درجات كثيرة، لكن إحدى درجات الأزرق صارت كئيبة في مصر لأنها لون عربة الترحيلات التي تنقل المساجين والمتهمين، وأثناء احتجاجات يناير 2011 أحرق متظاهرون مصريون عربات ترحيلات عدة كانت تقف أمام بعض أقسام الشرطة المصرية.
قصد المتظاهرون وقتها الانتقام من كل مظاهر القمع والظلم والقهر، لكن إلى اليوم ظلت عربة الترحيلات أقرب إلى وحش يتغذّى على كرامة المصريين وأمنهم، تراها تسير في الشوارع وداخلها عشرات المحتجزين في جحيم حقيقي، إلا من بعض الاستثناءات التي يكون فيها المحتجزون من ذوي الجهات السيادية الخاصة.
ومع دقات العاشرة صباح الأحد، أفرغت إحدى سيارات الترحيلات حمولتها المميزة، وبدأت جلسة محاكمة المتهمين بقتل محمود البنا المعروف إعلاميًا باسم “شهيد الشهامة”، بحضور والد المجنى عليه وعمه، والأربعة متهمين بالقتل.
تلاعب رسمي
وبعد فضيحة تلاعب أقارب القاتل بالأوراق الرسمية، يقول عبد العزيز نصير، محامى محمود البنا، المعروف إعلاميًا بـ”شهيد الشهامة”: إن المستندات التي تم استخراجها بناءً على تصريح المحكمة خلال الجلسة الأولى للمحاكمة الأسبوع الماضى، بتاريخ 20 أكتوبر، والتي أثبتت أن السن الحقيقية للمتهم الرئيسى في القضية أقل من 18 عامًا، وأنه سيكمل 18 عامًا بعد أسبوعين، بما يؤكد صحة إجراءات محاكمة المتهمين أمام محكمة الأحداث.
وتقول الناشطة رانيا محمود، تعليقا على تغيير شهادة ميلاد القاتل: “فاكرين محمود العيسوي اللى اتهموه بقتل بنت ليلى غفران وصاحبتها وهو أصلا كان مظلوم؟ كان وقتها عمره أقل من 18 سنة، وفضلت القضية تتأجل شهور لحد ما كمل السن القانونية واتحكم عليه بالإعدام”.
ويقول الناشط بيبرس سعيد: “القانون المصرى اللى مش بيقتل أطفال.. اللي اعتبر البلطجي راجح طفل.. افتكروا بس عبد الرحمن سيد اللى صدر بحقه حكم الإعدام وهو عنده ١٨ سنة.. واتنفذ وهو عنده ١٩ سنة.. الصورة لوالدته عند المشرحة ده غير طبعا المعتقلين اللى تحت السن القانونية”.
وعن العقوبة التي تنتظر المُتهم “محمد راجح”، أكدت نقابة المحامين بالمنوفية أنه بعد مراجعة كافة المستندات فإن المتهم لا يزال حدثًا، وتُجرى محاكمته أمام محكمة الطفل، وبناءً عليه فإن الحد الأقصى للعقوبة 15 عامًا.
كان المستشار حمادة الصاوي، نائب عام الانقلاب، قد أمر بإحالة المتهم “محمد راجح” و3 آخرين محبوسين إلى محاكمة جنائية عاجلة لاتهامهم بقتل المجني عليه، محمود محمد البنا عمدًا مع سبق الإصرار والترصد.
محدش اتحاكم
التلاعب في قضية القاتل “محمد راجح” الذي يتمتع بحماية جده لواء الشرطة وعمه الضابط، ذكّر المصريين بحادث عربة الترحيلات الشهير الذي قتل فيه 37 مصريا من أنصار الرئيس الشهيد محمد مرسي، على يد قوات الشرطة، أثناء ترحيلهم بالقرب من منطقة سجن أبو زعبل بمحافظة القليوبية، في أغسطس 2013.
يقول الناشط “أحمد الكاس”: “الشعب المصري بيضحكني فشخ.. عاوزين يحاكموا راجح اللي قتل محمود البنا؟!! دا نظام مبارك قتل المتظاهرين في 25 يناير 2011 وأخد براءة.. والمجلس العسكري قتل جماهير الكورة والأقباط في ماسبيرو ومحدش اتحاكم.. والعساكر عملوا كشف العذرية لست البنات وما اتحاكموش.. والسيسي عمل مذبحة رابعة ولسه رئيس”.
وفي 29 /12/2014، أذاعت قناة الشرق الفضائية التي تبث من تركيا، تسريبًا منسوبًا للقاء بين عباس كامل مدير مكتب جنرال إسرائيل السفيه عبد الفتاح السيسي عندما كان وزيرا للدفاع، وممدوح شاهين مساعد الوزير حينها، تم الاتفاق فيه على تسوية خارج القضاء بحق أحد الضباط في قضية تعرف بقضية “سيارة ترحيلات أبو زعبل”.
وبحسب التسريب، طلب كامل من شاهين التدخل لدى القضاء من أجل مساعدة أحد الضباط المتهمين بالقتل الخطأ في القضية التي حدثت في أغسطس 2013، لأنه ابن لواء في الجيش.
حصانة للقتلة
وتكشف التسريبات عن موافقة شاهين على الطلب ووعده بتسوية هذا الأمر. وتتلخص حادثة “سيارة الترحيلات” بأن عناصر من شرطة الانقلاب قاموا بحشر 45 رجلا متهمين بمعارضة الانقلاب العسكري مكبلين داخل سيارة تتسع لـ24 شخصا، في سجن أبو زعبل، في ظل اكتظاظ شديد وصعوبة بالغة في التنفس، وفي درجة حرارة تقارب الأربعين في الثامن عشر من أغسطس 2013.
ولما طال الوقت على المعتقلين في السيارة بدءوا بالاستغاثة وطرق أبواب العربة، فقامت الشرطة بقذفهم بقنبلة غاز، وبعد أن ظلوا لنحو سبع ساعات في “سيارة الترحيلات” سُمح لهم أخيرا بالنزول، ولكن بعد أن قضى منهم 37 شخصا اختناقا.
وزعمت وزارة الداخلية في حكومة الانقلاب وقت الحادث، أن المعتقلين حاولوا الهرب من سيارة الترحيلات واحتجزوا أحد الضباط رهينة، وأنهم توفوا بسبب الاختناق عقب استخدام الغاز المدمع للسيطرة عليهم.
وأثار تقرير وقتها لصحيفة الجارديان البريطانية بشأن تفاصيل “مجزرة سيارة الترحيلات” صدمة بين الأوساط الحقوقية في مصر، وطالب ناشطون بإجراء تحقيق مستقل لمحاسبة المسئولين عنها، إلا أن قضاء الانقلاب منح القتلة أحكامًا مخففة انتهت بإطلاق سراحهم.
