قال تقرير إن عشرات الحالات بين ألف و569 مصرياً تحدثوا عن تعرضهم للتعذيب الفردي والجماعي داخل مقار الاحتجاز، في الفترة بين عام 2017 و2023، وفق تقارير “أرشيف القهر” الصادرة عن مركز النديم لتأهيل ضحايا التعذيب. ويؤكد المركز أن هذه الأرقام تُمثل فقط “قمة جبل الجليد”؛ إذ إن هناك العديد من الانتهاكات تُجرى في الخفاء، بعيداً عن التوثيق أو الرصد.
والأمر ليس بالجديد، بل يكاد يُألفه من تعرضوا للتعذيب الجسدي والنفسي، بل والجنسي، على يد ضباط الأمن الوطني والمخبرين، وذلك منذ الانقلاب على الشرعية في يوليو 2013.
وبحسب التقرير، قُدمت شكاوى إلى النيابة العامة وأمام القضاة، بشأن التعرض للتعذيب والعنف الجنسي على يد “رجال” الشرطة خلال جلسات التحقيق، ولم يتخذ أعضاء النيابة أيّ إجراءات سوى تسجيل استغاثاتهم في محاضر الجلسات، دون تحقيق فعلي.
“زاوية ثالثة” قالت إنها توصلت إلى “مستندات قضائية توثق اعتماد سلطات الادعاء العام على جهاز الشرطة ذاته في جمع المعلومات والأدلة، وإحضار شهود بشأن وقائع التعذيب؛ وهي الوقائع التي أحد أطرافها أفراد من هذا الجهاز”. وغالباً ما ينتهي المطاف بهذه التحريات إلى حفظها؛ “لتعذر جمع المعلومات”.
وأضافت أن تقارير المنظمات الحقوقية -المحلية منها والدولية- إضافة إلى لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة، تشير إلى إهمال النيابة العامة فتح باب التحقيق؛ ما يُعزز إفلات مرتكبي التعذيب من العقاب.
ولفت التقرير إلى أن (المادة 52 من “الدستور”) تنص على أن التعذيب بجميع صوره وأشكاله جريمة لا تسقط بالتقادم. وتعد التحريات أولى خطوات الاستدلال بشأن الجرائم؛ ويراد بالتحريات جمع القرائن والأدلة كلها التي تفيد في التوصل إلى الحقيقة، والنيابة لا تجريها بنفسها، بل تعتمد على الشرطة في إجرائها.
وتخضع أعمال الشرطة في جمع الاستدلالات لإشراف ورقابة وتوجيهات أعضاء النيابة العامة، بموجب مواد الدستور المصري “189 و199”، ومواد قانون الإجراءات الجنائية “21 و23 و199”.
ونبهت إلى دراسة بحثية صادرة عن منظمة هيومن رايتس ووتش، بعنوان “إفلات الجناة من العقاب وحرمان الضحايا من العدالة في قضايا التعذيب”، التي أكدت أن إشراك “الشرطة” في التحقيق بوقائع التعذيب ينشأ عنه تضارب المصالح، ما يسهم في عدم التحقيق الجاد في بلاغات تعرض محتجزين للتعذيب.
حفظ الشكوى
وأكد التقرير أن نيابة الانقلاب لا تكتفي بحفظ شكاوى التعذيب، بل ربما يضغط أعضاؤها على المتقدمين بالشكوى للتراجع عن تقديمها.
ووفق دراسة بحثية صادرة عن مركز النديم بعنوان “أرشيف القهر” عام 2017، فإن الإخفاء القسري لا يخلو من تعذيب المختفين.
ونقلت الدراسة عن منظمة العفو الدولية أن نواب نيابة أمن الدولة تجاهلوا التحقيق في شكاوى تقدمت بها أسر ومحامو المقبوض عليهم، تتعلق بما وصفوه بـ “تحريف” الأمن الوطني لتواريخ القبض على 87 حالة من أصل 117؛ إذ سُجلت تواريخ الاعتقال بتاريخ اليوم الذي سبق تحقيق النيابة مباشرة. ورغم إرسال برقيات متعددة من الأسر والمحامين، لم يتخذ النواب العامون أيّ إجراءات للتحقيق فيما ورد في تلك البرقيات.
وتحظر المادتان 63 و232 من قانون الإجراءات الجنائية في مصر على ضحايا التعذيب رفع دعاوى قضائية مباشرة أمام المحاكم الجنائية؛ إذ تُمنح هذه الصلاحية حصراً للنائب العام، الذي غالباً ما تُحفظ في مكتبه غالبية شكاوى التعذيب من دون إحالة أيّ متهم للمحاكمة، وفق محمد عبيد، الباحث القانوني المتخصص في النقد الدستوري للتشريعات.
المنظمة العربية للإصلاح الجنائي، التي تتخذ من جنيف مقراً لها، لجأت إلى المحاكم المدنية، وأوردت المنظمة في أرشيفها خمسة آلاف و821 حكماً مدنياً بالتعويض عن التعذيب، أصدرها القضاء في الفترة بين عامي 1991 و2017.
ونقل الموقع عن محمد زارع، مدير المنظمة، قوله: “بعد صدور الحكم النهائي، نبدأ بمخاطبة وزارة الداخلية لتنفيذ الحكم وسداد قيمة التعويض، إلا أن محدودية ميزانية الوزارة المخصصة لهذا البند كانت تؤدي إلى انتظار الناجين فترات تتراوح بين ثلاث إلى ثماني سنوات لتلقي التعويضات المستحقة”.
عقوبات هزيلة إن ثبتت
واستعرض التقرير كيف تُفرض عقوبات هزيلة على المدانين بارتكاب جرائم التعذيب. فقد كشفت المفوضية المصرية عن قائمة تضم 63 ضابطاً وفرد شرطة أدانهم القضاء بارتكاب جرائم القتل العمد، والتعذيب، والضرب الذي أفضى إلى وفاة مواطنين؛ ومع ذلك، برأت محكمة النقض 20 من المتهمين، في حين أصدر رئيس الجمهورية قرارات بالعفو عن 23 آخرين. أما الباقون، فقد صدرت بحقهم أحكام بالسجن تراوحت بين ثلاث إلى سبع سنوات فقط.
ونقلت عن محمد عبيد، الباحث القانوني المتخصص في النقد الدستوري للتشريعات، أن ثغرات المادة 126 من قانون العقوبات المصري تُضعف العقوبات المفروضة على مرتكبي التعذيب، إذ يُقيّد تطبيقها بشروط صارمة تدفع النيابة العامة إلى توجيه اتهامات بجنح مخففة؛ مثل “استعمال القسوة”، التي لا تتجاوز عقوبتها الحبس لمدة عام، أو بغرامة لا تزيد على مائتي جنيه مصري. وفي حالات وفاة الضحية، يتم تكييف الجريمة إلى “ضرب أفضى إلى الموت”، وهي جريمة تستوجب عقوبة أقل من تلك المقررة للتعذيب الذي يؤدي إلى القتل العمد.
وأوضحت أن عجز القانون المطبق حالياً عن معاقبة مرتكبي التعذيب المُجرَّم دستورياً دفع بعض مؤسسات المجتمع المدني إلى اقتراح تعديله.
وذكرت أنه بين عامي 2014 و2015، قدمت المجموعة المتحدة، التي أسسها المحامي نجاد البرعي، 163 بلاغاً بشأن 465 ادعاءً بالتعذيب داخل أماكن الاحتجاز، بيد أن النيابة العامة لم تتخذ أيّ إجراءات حيال تلك البلاغات؛ ما دفع المجموعة للجوء إلى التفتيش القضائي لضمان سرعة إجراء التحقيقات.
وفي مارس 2015، عقدت المجموعة ورشة خبراء لعرض ومناقشة مشروع قانون لمكافحة جريمة التعذيب، بما يتوافق مع نصوص الدستور، ويتماشى مع المعايير الدولية، وفق ما أعلنته المجموعة.
وأُرسل مشروع القانون إلى رئاسة الجمهورية، وعدد من الوزارات المعنية، غير أن الجهات المُرسل إليها المشروع لم تتفاعل معه. على النقيض من ذلك، أُحيل القاضيان اللذان شاركا في صياغة مشروع القانون للتحقيق، كما استُدعي البرعي إلى محكمة شمال الجيزة لسماع أقواله، ضمن التحقيقات التي تُجرى مع القاضيين اللذين وُجهت إليهما ستة اتهامات، منها “إعداد مشروع قانون ضد التعذيب، والضغط على رئيس الجمهورية لإصداره، والتعامل مع منظمة غير شرعية”.