في مشهد يرسّخ هشاشة الوضع الاقتصادي في زمن الانقلاب، شهدت البورصة المصرية تراجعات حادة للجلسة الثالثة على التوالي، فيما يواصل الجنيه المصري رحلة الهبوط أمام الدولار، وسط تصاعد التوترات بين إيران والاحتلال الإسرائيلي، وازدياد المخاوف من تحول المواجهة إلى حرب إقليمية شاملة قد تكون لها تداعيات كارثية على المنطقة، وعلى مصر على وجه الخصوص.
وبحسب بيانات رسمية صادرة عن البورصة المصرية، فقدت الأسهم المقيّدة ما يقارب 30 مليار جنيه من قيمتها السوقية في جلسة الثلاثاء، ليغلق رأس المال السوقي عند 2.182 تريليون جنيه، بينما بلغت قيمة التداولات نحو 3.1 مليار جنيه، وهبط مؤشر EGX30 الرئيسي بنسبة 1.02% إلى أدنى مستوياته منذ شهور، بينما سجل مؤشر EGX70 للشركات الصغيرة والمتوسطة تراجعًا أكثر حدة بنسبة 2.44%، ومثله EGX100 الذي خسر 2.22%. بورصة مصر تنزف أكثر من تل أبيب، وبينما أشارت تقارير خليجية إلى بعض إشارات التهدئة من الجانب الإيراني، انعكست الأجواء الإقليمية العاصفة بوضوح على سلوك المستثمرين في السوق المصرية، التي سجّلت أداء سلبيًا تجاوز في حدته حتى ما شهدته بورصة تل أبيب نفسها.
ويرى مراقبون أن المستثمرين الأجانب والعرب قادوا موجة بيع قوية، مدفوعين بتصاعد التوتر العسكري في الإقليم، في ظل افتقاد السوق المصري لمحفزات داخلية حقيقية أو مظلة حماية اقتصادية يمكنها امتصاص الصدمات.
اقتصاد غير مُنتج وعمولات الدولة لا تحمي السوق
يصف خبراء الاقتصاد وضع السوق الحالي بأنه انعكاس مباشر لتحوّل بنية الاقتصاد المصري في عهد السيسي من اقتصاد إنتاجي إلى اقتصاد "عمولات وسمسرة"، يعتمد على المشاريع العقارية الفوقية والمقاولات ووساطة الصفقات، لا على التصنيع أو التصدير أو تنمية الموارد الطبيعية.
ويقول الدكتور محمود العطار، خبير الاقتصاد الكلي: "أُغلقت آلاف المصانع، وتراجعت مساهمة الصناعة والزراعة في الناتج القومي، مقابل تضخم دور شركات مقاولات تابعة للدولة أو الجيش، ما جعل الاقتصاد هشًا وعُرضة لأي زلزال خارجي."
وأضاف أن ما يحدث الآن ليس إلا بداية حلقة أوسع من الأزمات المالية، فغياب إنتاج حقيقي يجعل من السوق المالية رهينة للتقلبات، ومع كل توتر سياسي أو أمني، ينكشف الغطاء أكثر.
الجنيه يواصل النزيف.. والسوق الموازية تكشف الفجوة
في الوقت الذي تحاول فيه الحكومة السيطرة على سعر الصرف الرسمي، تؤكد تقارير مستقلة أن الجنيه المصري تراجع في السوق الموازية إلى ما دون 51 جنيهًا للدولار، ما يعكس الفجوة العميقة بين السعر الرسمي والفعلي، ويؤكد حجم الطلب المتراكم على العملة الأجنبية، وسط ندرة واضحة في النقد الأجنبي داخل البنوك.
هذا التدهور في سعر العملة ينعكس مباشرة على قدرة المستثمرين على تقييم أصولهم، حيث تتآكل قيم الأسهم أمام الدولار، ما يدفع بعضهم إلى الانسحاب ولو بخسائر، خوفًا من استمرار موجة النزيف.
ماذا لو اندلعت الحرب الشاملة؟
السيناريو الأكثر تشاؤمًا، بحسب المراقبين، يتمثل في تحول المواجهة بين إيران والاحتلال إلى حرب إقليمية شاملة تشمل جبهات متعددة، من لبنان إلى سوريا، وربما اليمن والخليج، وفي هذا السياق، تبدو مصر من أكثر الدول الهشة اقتصاديًا والتي قد تدفع الثمن سريعًا.
يقول الخبير الإقليمي هشام فؤاد: "معظم الدول العربية تملك أدوات مناعة اقتصادية نسبية، احتياطيات ضخمة، فوائض مالية، أو اقتصادات نفطية، أمّا مصر، فهي تعتمد على الاقتراض، وعلى تحويلات العاملين بالخارج، وقناة السويس التي قد تتأثر مباشرة في حال تصاعد النزاع."
ويضيف أن أي اضطراب إقليمي قد يؤدي إلى انخفاض التحويلات، تراجع السياحة، تذبذب إيرادات القناة، وارتفاع تكلفة التأمين على السفن، وكلها عوامل تضرب شرايين الدخل القومي.
الأسواق تترقب.. لكن الأساس مفقود
وبالرغم من أن بعض مديري الصناديق يتوقعون تعافيًا سريعًا للأسواق حال حدوث تهدئة، إلا أن كثيرين يرون أن هذا التعافي سيكون مؤقتًا، طالما بقيت البنية الاقتصادية على حاله، ولن تنجح أي تهدئة إقليمية في إنعاش سوق لا يملك أساسًا متينًا.
تقول المحللة الاقتصادية سمر الدسوقي: "الحل الحقيقي يبدأ من إعادة بناء الاقتصاد المصري على أسس إنتاجية وتنموية، وإعادة فتح المصانع، ودعم المشاريع الصغيرة، وإنهاء هيمنة المقاولات والسمسرة على القرار الاقتصادي
الخلاصة:
مصر اليوم تدفع ثمن سنوات من إدارة اقتصادية قائمة على الاقتراض، المشاريع الشكلية، وغياب الإنتاج، ومع اقتراب نُذر الحرب الإقليمية، يقف الاقتصاد المصري عاريًا أمام العاصفة، في انتظار ما هو أسو، هل تملك السلطة أدوات النجاة؟ أم إننا أمام سيناريو جديد من الانهيار؟ الأيام القادمة وحدها ستحمل الإجابة.
