يؤكد المراقبون أن ما يجري في مصر ليس مجرد انتهاك للحقوق، بل هو إعادة هندسة قانونية للانتهاك ذاته، فبدلًا من إنهاء الاعتقال التعسفي، تُعيد الدولة تعريفه، وتُغلفه بملفات قضائية، وتُقدمه في قاعات محاكم شكلية، وتُودعه في سجون حديثة التصميم، إنها شرعية ديكورية تُستخدم لتجميل القمع، لا لإنهائه.
وقالت منصة المحامي المعتقل السيد خلف: إن "مصر كنظام انقلابي قمعي، لم تُلغِ الاعتقال التعسفي، بل منحته شهادة ميلاد قانونية، ولم تُنهِ الانتهاك، بل صادقَت عليه بختم الجمهورية معتبرا أنها إنها الدولة التي لا تُخطئ فقط بل تُقنّن أخطاءها".
وأبرز تحليل قانوني كيف تُستخدم أدوات القانون لتقنين الظلم، ويُسلط الضوء على التناقض بين الشكل القانوني والمضمون الحقوقي، في مشهد يُعيد تعريف العدالة كديكور سياسي.
وقالت منصة (السيد خلف المحامي): "في السنوات الأخيرة، قررت الدولة المصرية أن تواجه الانتقادات الحقوقية الدولية بطريقة مبتكرة، بدلًا من أن تُنهي الاعتقال التعسفي، قررت ببساطة أن تُعيد تعريفه".
وأوضح "هكذا وُلدت السياسة العبقرية المسماة “تقنين أوضاع المعتقلين”، أو كما يمكن وصفها بدقة أكبر: فن تحويل الانتهاك إلى إجراء قانوني مُنمّق".
أولًا: من الزنزانة إلى القضية… رحلة المعتقل الذي لا يخرج أبدًا.
عندما تنتهي مدة الحبس الاحتياطي القانونية، لا تقلق الدولة. الحل بسيط: ملف جديد، رقم جديد، والتهم نفسها — “انضم لجماعة محظورة”، “نشر أخبار كاذبة”، وربما "نشر الأمل في غير موضعه".
هكذا يدخل المعتقل في حالة تدوير أمني لا نهائية، يخرج من قضية ليجد نفسه داخل أخرى، وكأن النظام ابتكر صيغة جديدة للخلود السياسي داخل الزنازين.
ثانيًا: القضاء كواجهة عرض
من قال: إننا "نعتقل خارج القانون؟ لدينا محاكم وجلسات وملفات، كل شيء يبدو قانونيًا تمامًا،
فقط لا تسأل عن حق الدفاع، أو عن القضايا التي لا يراها أحد، أو عن تلك الجلسات التي تُدار وكأنها مراسم لا محاكمة".
العدالة هنا تُعرض في واجهة أنيقة، لكنها في الحقيقة تماثيل شمع فقدت روحها منذ زمن بعيد.
ثالثًا: مراكز الإصلاح… بالديكور فقط
بالتوازي مع “التقنين”، دشّنت الدولة مجمعات السجون الجديدة تحت شعار “الإصلاح والتأهيل” — بدر، العاشر، وادي النطرون، وغيرها.
واجهات لامعة وتصريحات رسمية مطمئنة بأن “السجين في أيدٍ أمينة”.
لكن خلف الواجهات الحديثة: نفس الزنازين، نفس القمع، نفس المنع من الزيارة، ونفس الحرمان من الدواء.
الفرق الوحيد أن الانتهاك أصبح الآن مزوّدًا بتكييف قانوني.
رابعًا: من معتقل إلى “مسجون”
بلغت العبقرية ذروتها حين نجحت الدولة في تحويل آلاف المعتقلين السياسيين إلى “محبوسين احتياطيًا” أو “سجناء محكومين”.
بهذا الإنجاز اللغوي، انتهت أزمة “وجود معتقلين سياسيين” تمامًا — لكن على الورق فقط.
أما في الواقع، فما زالوا في الزنازين ذاتها، لكنهم صاروا الآن “محكومين قضائيًا”.
كأن العدالة صارت تشتغل بالتوصية.
خامسًا: خلاصة السياسة
بهذه الحيلة اللغوية القانونية، نجحت السلطة في ابتكار نوع جديد من الشرعية: الشرعية الديكورية، حيث يُستخدم القانون لا لرفع الظلم، بل لتلميعه.
وحين تُسأل الدولة عن تقارير الأمم المتحدة أو منظمات حقوق الإنسان، يكون الرد ثابتًا وواثقًا: “إحنا ماعندناش معتقلين سياسيين.”
أبرز قوانين الاعتقال التعسفي
ويعد من أبرز القوانين التي تُستخدم لتقنين الاعتقال التعسفي في مصر؛ قانون الطوارئ، وقانون الإجراءات الجنائية، وممارسات مثل "تدوير المعتقلين" التي تُستخدم للتحايل على القيود القانونية وتُستخدم لتبرير أو تقنين الاعتقال التعسفي في مصر:
قانون الإجراءات الجنائية ونسخته الأولى في 1950 والصيغة المعدلة منه في 2025 يُستخدم لتبرير الحبس الاحتياطي والتدوير والمادة 143 منه كمثال تنص على أن الحبس الاحتياطي لا يجب أن يتجاوز سنتين. في حين تتحايل الأجهزة على ذلك عبر "تدوير المعتقلين" في قضايا جديدة قبل انتهاء المدة، مما يُعيد احتجازهم بشكل قانوني ظاهريًا.
ويستخدم قانون الطوارئ الصادر في 1958 ونسخه المعدلة على مدار أكثر من 70 سنة؛ للاعتقال الإداري وتعطيل الرقابة القضائية.
يُمنح الرئيس صلاحيات استثنائية تشمل الاعتقال دون أمر قضائي.
وبقانون الطوارئ تبرر حكومة السيسي الاحتجاز الإداري لفترات طويلة دون محاكمة ورغم إعلان إنهاء حالة الطوارئ في بعض الفترات، تُمارس السلطات صلاحيات مشابهة عبر قوانين أخرى.
أما قانون مكافحة الإرهاب الصادر في 2015 فهو يُوسع صلاحيات الأمن ويُضعف الرقابة القضائية.
تدوير المعتقلين
يُعاد إدراج المعتقل في قضية جديدة بنفس التهم أو تهم مشابهة، ويُستخدم لتفادي الإفراج القانوني بعد انتهاء مدة الحبس الاحتياطي، ويُعد انتهاكًا للحق في الحرية ويُستخدم بشكل ممنهج ضد المعارضين السياسيين.
ولا يوجد نص قانوني مباشر يجيز "التدوير"، لكنه يُنفذ عبر ثغرات في قانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة 1950، خاصة المادة 143 التي تحدد مدة الحبس الاحتياطي.
وعند اقتراب انتهاء مدة الحبس، يُعاد إدراج المعتقل في قضية جديدة بنفس التهم أو تهم مشابهة، مما يُعيد الحبس الاحتياطي من جديد. وهذه الممارسة تُعد تحايلاً على القانون، وتُستخدم بشكل موسّع منذ عام 2013 ضد النشطاء والمعارضين.
الاعتقال الإداري
لا يستند إلى أدلة أو تحقيقات جنائية ويُستخدم ضد النشطاء والمعارضين تحت ذرائع أمنية ويُعتبر من أبرز صور الاعتقال التعسفي في ظل قانون الطوارئ.
ويُستند الاعتقال الإداري إلى قانون الطوارئ رقم 162 لسنة 1958، الذي يمنح السلطات صلاحية الاعتقال دون إذن قضائي وقانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لسنة 2015، الذي يوسع صلاحيات الأمن في الاحتجاز والتحقيق دون رقابة قضائية فعالة ويُنفذ دون توجيه تهم أو محاكمة، ويُبرر بأنه "إجراء وقائي" ضد تهديدات الأمن القومي.
بلا رقابة قضائية
في كثير من الحالات، لا تُعرض القضايا على قضاة مستقلين، ويُستخدم الحبس الاحتياطي كأداة عقابية بدلًا من كونه إجراءً احترازيًا. بظل أن المعتقلين يُمنعون (في أغلبهم) من التواصل مع محاميهم أو أسرهم، ويُحتجزون في ظروف غير إنسانية.
ورغم وجود نصوص تتيح الطعن في القرارات الإدارية أمام القضاء الإداري، إلا أن الرقابة القضائية على قرارات التوقيف الإداري ضعيفة أو شكلية، كما أظهرت دراسة منشورة في مجلة البحوث القانونية والاقتصادية 2024، أشارت إلى أن قانون الإجراءات الجنائية لا يضمن عرض المعتقلين فورًا على قاضٍ مستقل ويعطل قانون الطوارئ؛ الرقابة القضائية ويمنح صلاحيات واسعة للسلطة التنفيذية.
