في الوقت الذي كانت فيه أنظار العالم تتجه إلى منطقة الأهرامات لمتابعة حفل افتتاح “المتحف الكبير” الذي كلّف 100 مليار من الجنيهات، كانت أمواج البحر قبالة السواحل الليبية تبتلع سبعة من شباب قرية تلبانة بمحافظة الدقهلية، خرجوا في رحلة هروب أخيرة من وطنٍ ضاق بهم حتى لفظهم نحو الموت.
رحلة الموت بدأت من الأراضي الليبية، حيث انطلق القارب الصغير نحو الحلم الأوروبي، لكنه لم يصمد طويلًا. عطَل مفاجئ أدى إلى انقلابه قبالة مدينة الزاوية الليبية، لتتحول الرحلة إلى مأساة جديدة تُضاف إلى سجل طويل من الكوارث المتكررة.
حتى لحظة إعداد التقرير، تمكّنت السلطات الليبية من انتشال جثامين أربعة من الضحايا هم:
فتحي مجدي الصاوي، أحمد طارق محمد القناوي، السعودي عبد المنعم أبو الإسعاد يونس، ومحمود محمد أبو الإسعاد يونس، بينما لا يزال ثلاثة آخرون في عداد المفقودين.
تلبانة… قرية الحزن والغضب
خيم الصمت الموجوع على شوارع القرية، وتحوّلت منازل الضحايا إلى بيوت عزاء تملؤها صرخات الأمهات المكلومات.
أهالي تلبانة لا يرون ما حدث "حادثًا عابرًا"، بل نتيجة طبيعية للفقر والتهميش وغياب الأمل، بعد أن أصبحت الهجرة غير الشرعية هي الخلاص الوحيد من واقعٍ بلا كرامة ولا فرص.
يقول أحد الأهالي: “الشباب ما بيهربوش عشان مغامرة… بيهربوا عشان يعيشوا، حتى لو كانت الحياة في البحر أقرب للموت.”
تحركات رسمية بطيئة وصمتٌ ثقيل
أعلنت السلطات المصرية بدء التنسيق مع الجانب الليبي لإعادة الجثامين، لكنها لم تُقنع الأهالي الذين فقدوا الثقة في وعودٍ لا تتحقق.
يطالب الأهالي بتحقيق عاجل وشامل لكشف المتورطين في شبكات التهريب التي تعمل تحت أعين الأجهزة الأمنية، فيما يرى مراقبون أن بطء التحرك الرسمي ليس إلا استمرارًا لنهج التجاهل، حيث لا تتحرك الدولة إلا بعد أن يتحول الفقر إلى مأساة جماعية.
بلد يغرق… واحتفال بالمليارات
بالتزامن مع هذه الفاجعة، كان الرئيس عبد الفتاح السيسي يفتتح المتحف الكبير بمشاركة وفود من كل أنحاء العالم، ويوزع عملات تذكارية من الذهب في حفل أسطوري تجاوزت تكلفته مئات الملايين من الجنيهات، بينما تكلفت إنشاءات المتحف ما لا يقل عن 100 مليار جنيه، وهو قرض من اليابان يسدده الشعب المصري الذي يعيش اليوم تحت وطأة الديون والفقر.
هكذا تتجسد المفارقة القاتمة:
بينما تُغرق الدولة نفسها في مشروعات “استعراضية” لا تطعم جائعًا، يُدفن أبناء القرى في البحر بحثًا عن لقمة عيش.
إنها مصر التي تُشيّع أبناءها إلى البحر، ثم تحتفي بالرخام والذهب في المتاحف.
من يملك الوطن؟
حادثة تلبانة ليست سوى مرآة لمصر اليوم؛ بلد يضيّع شبابه في البحر بينما ينشغل قادته باللقطات الدعائية.
الفقر والفساد والبطالة جعلت من الموت في البحر خيارًا مقبولًا لدى آلاف الشباب الذين لم يجدوا في وطنهم سوى الجوع والخذلان.
وفي حين تزداد الديون وتُهدر المليارات على مشاريع لا تمس حياة الناس، تظل القرى المنسية تودّع أبناءها واحدًا تلو الآخر، بلا أفق ولا أمل.
يبقى البحر الشاهد الأخير على فشل السياسات، وعلى وطنٍ صار فيه الغرق أهون من العيش.
وفي كل مرة يغيب فيها قاربٌ محمّل بالأحلام، يردّد الفقراء ذات العبارة المرة:
"نموت في البحر… ولا نعيش في وطنٍ لا يسمع صراخنا."
