كسرُ شوكةِ الجيش السوداني في مدينة الفاشر لا يعني نهاية الحرب الكارثية في إقليم دارفور. ربّما يوازي احتفالُ المقاتلين بالنصر اكتئابَ الجنود بالهزيمة وفق ترمومتر اللحظة العسكرية. لكنّ موازين الاقتتال لم تُرجّح كفّاتها بعد. معركة الفاشر لا تؤرّخ، كما انهيار بغداد على يد هولاكو، لانهيار دولة كما يصوّرها أنصار الفاتحين. ليست الفاشرُ لينينغراد كما يحاول معسكر الهزيمة تسويق الصمود قبل الانكسار، فدارفور بأسرها مزرعةٌ ملغومةٌ بالثارات القبلية النائمة والطازجة.
كلّها قابلة للاستيقاظ. الفوزُ المُخضَّب بالدم والجثث المهملة لا يلهمان الإحساس بالاطمئنان، كما العويل المشفع بالاستنفار، لا يحرّض على الشعور بالقدرة على الاسترداد. جبهات القتال هدأت ربّما، لكنّها لم تسكن بعد. كما ظلّ الجميع يثيرون أمر التقاطعات الخارجية داخل مرمى النار فإن مصادرَ من تلك التقاطعات ترى في معركة الفاشر اختلالاً لا يمكن ابتلاعه. ليست الفاشر المعركة الأخيرة من أينما بدأت في قراءة الخريطة الجيوسياسية. ما كان الوضع يتطلّب مسعى دولياً أخلاقياً يرسم خطوطاً حُمرَاً، بل كان يستوجب تدخّلاً عملياتياً.
ارتكبت اللجنة الرباعية صبراً مركّباً حين قدّمت المطالبة بتأمين وصول الإغاثة على مسألة وقف النار، فمرور الإغاثة لن يتأتّى تحت استمرار تقاطع خطوط الاشتباك المسلّح. يستند ذلك التعويل إلى أكثر من فرضية وهمية، فالحرب كشفت افتقارَ طرفَي الحرب إلى الحدّ الأدنى من مدوّنة الأخلاقيات الإنسانية الكفيلة بتمرير عمليات الغوث المطلوبة بإلحاح. على النقيض، ممارسات الطرفين موصومة بأقذع قاموس الفُحش والتوحّش والفظائع إبّان الحرب. أكثر من ذلك، التاريخ مائجٌ بالشواهد على مساهمة عمليات الإغاثة في تمديد أمد الحروب، حتى تحت وقف الاقتتال. تلك ظاهرة تستفحل في ظلّ وقف النار الهشّ. لذلك، كان ينبغي تركيز الجهود الرباعية (الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر) في إلزام طرفَي الاقتتال إلقاء السلاح أولاً. تلك خطوة لا تحتمل الصبر، من شأنها تأمين مرور عمليات الإغاثة، بعدئذٍ يحين الحديث عن إطفاء الحرب. مع التقدّم في هذا الدرب، تتقوى إرادات الأطراف كلّها لجهة إسدال الستار على محنة الاحتراب، ثمّ ارتياد آفاق السلام.
تتناسل تحت غبار اللاسلم واللاحرب أشكالٌ متباينةٌ من العنف والابتزاز والتجويع والمعاناة. إنها حربٌ شرسةٌ تفتك بآلاف الأبرياء من الأطفال والنساء بأسلحة ليست نارية
ربطُ الإغاثة بالعمل الخيري نظرة أخلاقيةٌ بحتة، لكنّها رؤية غير نافذة سياسياً، فما من يدٍ تمتدّ بمساعدات إنسانية في ظروف الحرب أو السلام مبرّأةٌ من البعد السياسي. منطق السياسة المعاصرة يمنح المساعدات الإنسانية، بغية تخفيف ويلات الكوارث وآلام الحروب، بُعداً ينطوي على غايات سياسية ومصالح اقتصادية، فالعمل الإنساني على الصعيد الدولي لم يعد جهداً أخلاقياً خالصاً، بل صار صناعةً سياسية. ما من سياسيٍّ حالياً يؤمن بما قاله الرئيس الأميركي روزفلت عقب الحرب العالمية الثانية: "تعلّمنا أنه لا يمكن العيش في سلام بمفردنا، وأن رفاهنا يتوقّف على رفاه أمم بعيدة منا". تعلّمت الدول كيف تنشئ عبر خطوط المساعدات شبكات مصالح سياسية، اقتصادية وثقافية، مع شعوب مغايرة. ذلك ليس وقفاً على الدول المانحة فقط، بل حتى المتلقّية.
لسوء طالع السودان أنه بين أربعة بلدان أفريقية شهدت حروباً شرسةً عقب الحرب العالمية الثانية، جرت في أثنائها عمليات إبادة ومذابح جماعية حصدت آلاف الضحايا. تلك خلفية تجعل مهلة "الرباعية" بأشهر ثلاثة منزلقاً للغرق في أتون الجحيم. دارفور مسرح لتلك الفظائع المتوحّشة أكثر من 12 سنة. في غياب الوازع الأخلاقي، تستعر شهية الوالغين في الدم للاستثمار في مواد الإغاثة حال وصولها، فكل طرفٍ مقاتلٍ يسعى إلى الاستئثار بما يحوز بغية تحسين حال المتعاونين معه أو حرمان خصومه… هكذا تصبح مواد الإغاثة، بما فيها من الغذاء والدواء وحتى مياه الشرب، موارد اقتصادية للفرقاء. كذلك تتناسل تحت غبار اللاسلم واللاحرب أشكالٌ متباينةٌ من العنف والابتزاز والتجويع والمعاناة. إنها حربٌ شرسةٌ تفتك بآلاف الأبرياء من الأطفال والنساء بأسلحة ليست نارية.
كشفت الحرب في السودان افتقار طرفَيها إلى الحدّ الأدنى من الأخلاق
أفسدت التقاطعات السياسية فكرة السويسري هنري دونان بإنشاء اللجنة الدولية للصليب الأحمر في عام 1863، إطاراً للعمل الإنساني المنظّم بقوانين ومواثيق دولية، فعندما هبّت أميركا لمساعدة ضحايا الحرب الأهلية في روسيا عند عشرينيّات القرن الفائت استهدفت إضعاف هيمنة البلاشفة. حتى بعد نشوء وكالات متخصّصة تحت مظلّة الامم المتحدة، وتكاثر الهيئات الأهلية متعدّدة الأعراق عابرة الحدود، لم تنحسر ظلال السياسة، بل كثيراً ما تتخذ مثلُ هذه الظلال توصيف المؤامرة بتعزيز مواقف أحد أطراف الاقتتال. لعلّ منظمة أطبّاء بلا حدود، وهي واجهة خيرية تطوّعية، لم تبرأ من تهم عدم الحياد أو الانحياز إلى طرف بعينه. غالباً ما يستفيد غالبية منتسبي العمل في الإغاثة من خارج مسارح العمليات العسكرية أو من غير انتماءات أطراف الاقتتال. ذلك وضعٌ ربما يصبغ عليهم الحياد، لكنّه لا يؤهلهم للتدخل من أجل إنقاذ مَن يمكن إنقاذه. في ذلك يستوي مصدر الغوث ومنظّمات الإغاثة وموادّها.
كيفما جاء مصدر المساعدات الإنسانية، أو بُنيت شبكات توزيعها، لم يعد العمل الإنساني ينجو من التسييس. أحد أبرز عناصر هذا التصنيف أن الحكومات هي المموّل الأساس في عمليات ترتيب وتمويل مواد الإغاثة وآليات نقلها وتوزيعها. رغم اقتران هذا الجهد بأهداف سياسية ومصالح اقتصادية، هناك عناصر ثقافية واجتماعية تساهم في تسييس العمل الإنساني. تلك العملية المعقّدة تجعل المسألةَ تتجاوز مجرّد اتهام بالتسييس إلى تهم التآمر. مدير برنامج الغذاء العالمي أصبح أول ضحايا هذه اللعبة في دارفور. طابع الاقتتال في دارفور يستوعب تلك العناصر كلّها، فالدولة محتاجة للعون ومتلقّية، وتعمل من أجل احتكار المساعدات. ذلك أحد أقصر السبل في سبيل استرداد قدرتها على النهوض. هذا ما يؤكّد عدم نجاعة الرهان على تحديد ثلاثة أشهر مهلةً لتمرير الإغاثة، وهو ليس الخيار الموفّق من أجل إسكات النار، بل على النقيض، هو منزلقٌ دبغٌ لتوغّل الإقليم (وربّما السودان بأسره) في مستنقع الدم.
هناك سباق محموم بين العمل الخيري والعمل السياسي من جانب، وبينهما والعمل العسكري في الجانب الآخر. هناك دوماً خطوط صفراء وأُخرَ حمراء.

