في مشهد يعكس حجم الارتهان الذي وصلت إليه مصر تحت سلطة عبد الفتاح السيسي، تكشف أزمة توقف توريد الغاز من الكيان الصهيوني خلال الأيام الأخيرة عن عمق التبعية التي نسجها النظام العسكري مع تل أبيب، بعد أن تنازل عن حقوق مصر في ثرواتها الطبيعية في البحر المتوسط، ثم عاد ليشتري غازها المسلوب بأضعاف ثمنه، في واحدة من أكثر الصفقات إذلالًا في التاريخ الحديث.
ففي الوقت الذي أعلنت فيه وكالة بلومبرج الشرق عن تراجع واردات الغاز الإسرائيلي إلى مصر بمقدار الثلث بسبب صيانة حقل “تمار” لمدة 12 يومًا، سارع مسئولون في وزارة البترول إلى طمأنة الرأي العام، مؤكدين أن “لا آثار سلبية محلية”، وأن الصيانة “مجدولة مسبقًا” وبالتنسيق الكامل مع الجانب الإسرائيلي، في تأكيد جديد على عمق “الشراكة” بين الجانبين، التي فرضها السيسي منذ توقيعه اتفاقية الغاز المشبوهة عام 2018.
لكن خلف هذه اللغة التقنية الباردة تختبئ قصة سياسية مريرة. فمنذ أن أطاح السيسي بأول رئيس مدني منتخب، الشهيد الدكتور محمد مرسي، في انقلاب 3 يوليو 2013، باتت سياسات الدولة تسير على خط واحد: التطبيع الاقتصادي والسياسي الكامل مع الكيان الصهيوني، تحت غطاء “التعاون في مجال الطاقة”.
ولم يكن الأمر صدفة؛ إذ إن تنازله عن حقول الغاز المصرية في شرق المتوسط لصالح إسرائيل واليونان وقبرص، تم في ظل صمتٍ مطبق من قيادات الجيش التي شاركته الجريمة، حفاظًا على امتيازاتهم ومصالحهم، بعد أن تلطخت أيديهم بالدم والفساد.
اليوم، تستورد مصر نحو 900 مليون قدم مكعب يوميًا من الغاز الإسرائيلي، في وقتٍ تمتلك فيه محطات تغويز قادرة على إنتاج أكثر من 2.2 مليار قدم مكعب يوميًا من الغاز المصري المسال، لكنها تُترك شبه معطّلة، لتُفتح أبواب البلاد أمام غاز الاحتلال الذي يُسوّق إعلام النظام استيراده باعتباره “انتصارًا اقتصاديًا”!
اللافت أن هذا التراجع في الإمدادات ليس الأول من نوعه؛ إذ انخفضت واردات الغاز الإسرائيلي خمس مرات منذ اندلاع حرب الإبادة في غزة، سواء بسبب “أعمال صيانة” أو أوامر سياسية من حكومة الاحتلال.
ورغم ذلك، لم تُقدِم القاهرة على أي مراجعة للاتفاقية أو حتى وقف مؤقت للاستيراد، وكأنها باتت مُلزمة بحماية مصالح تل أبيب أكثر من حماية أمنها القومي.
إن ما يُروّج له السيسي على أنه “شراكة استراتيجية في الطاقة” ليس سوى ربط مصيري لمصر بالاقتصاد الصهيوني، وتحويلها إلى سوق تابعة تتحكم فيها الشركات الإسرائيلية وشركاؤها في الداخل من رجال المال والجيش.
وهو ما يُعيد إلى الأذهان اتفاقية “كامب ديفيد” بنسخة اقتصادية جديدة، لكن هذه المرة بثوب الغاز والنفط، لا السياسة والسلاح.
هكذا، لم تعد تل أبيب هي من تحتاج إلى مد نفوذها نحو الجنوب، فقد تكفّل السيسي، بوعي أو بتواطؤ، بتحويل مصر إلى ملحق اقتصادي للاحتلال، يضمن أمنه الطاقي ويفتح له أبواب المنطقة على مصراعيها، بينما يُحرم الشعب المصري من ثرواته الطبيعية ويُغرق في الديون والفقر.
