السيسي بين خطاب التسامح وممارسات الإقصاء: مفارقة الدولة “المدنية” التي تخشى المآذن

- ‎فيتقارير

 

في مشهد يحمل قدرًا كبيرًا من المفارقة، عاد المنقلب السيسي للتغنّي مجددًا بحرية العقيدة والعبادة في مصر، متحدثًا أمام وفد من مجلس الكنائس العالمي عن "التسامح الديني" و"قيم التفاهم والسلام"، في وقتٍ تتّسع فيه السجون لعشرات الآلاف من الإسلاميين، وتُهدم فيه المساجد وتُحاصر المنابر، وتُخضع المؤسسات الدينية الرسمية لرقابة صارمة من الأجهزة الأمنية.

 

تصريحات السيسي، التي جاءت خلال استقباله وفد المجلس برئاسة القس جيري بيلاي وبحضور البابا تواضروس الثاني، بدت كما لو أنها موجهة للغرب أكثر من الداخل، إذ كرّر الرجل الحديث عن "صون حرية العبادة وتعزيز الحوار بين الأديان"، في خطابٍ يتماهى مع الصورة التي يسعى لتصديرها للخارج: مصر المتسامحة، حامية الأقليات، والدولة "المدنية الحديثة".

 

لكن خلف هذا الخطاب "الناعم"، تكمن سياسة قمعية صارمة، تستهدف كل ما يمتّ بصلة إلى الإسلام السياسي أو حتى التدين الشعبي المستقل عن قبضة الدولة. فمنذ استيلائه على الحكم عقب انقلاب يوليو 2013، أغلق السيسي آلاف المساجد الصغيرة، ووضع خطب الجمعة تحت وصاية وزارة الأوقاف، وأحال المئات من الأئمة إلى التحقيق أو الإيقاف لمجرد خروجهم عن النص الرسمي. بل إن حملاته "التنظيمية" ضد المساجد شملت هدم بيوت الله بدعوى مخالفة شروط البناء، بينما ظلّت الكنائس تحظى بالدعم السياسي والرمزي والإعلامي غير المسبوق.

 

ورغم حديثه عن "احتضان مصر للعائلة المقدسة"، إلا أن الواقع السياسي والديني يشهد على احتضان الدولة لرجال الكنيسة أكثر من علمائها، وتحالف السلطة مع رموز دينية مسيحية وهندوسية ويهودية في مشهدٍ متكرر من تلميع صورة النظام أمام الخارج.

 

هذا التناقض بين الخطاب والممارسة يكشف عن استخدام السيسي للخطاب الديني كأداة سياسية وأمنية؛ فحين يتحدث إلى الغرب، يرفع شعار التسامح وحرية المعتقد، وحين يتحدث إلى الداخل، يستحضر لغة "الحرب على الإرهاب" و"تجديد الخطاب الديني" لتبرير إحكام السيطرة على المجال الديني، وقمع كل صوتٍ معارض يرفع راية الإسلام أو ينتقد السلطة.

 

في المقابل، تبدو مواقفه الودّية تجاه غير المسلمين جزءًا من استراتيجية التوازن الخارجي التي يسعى من خلالها لتثبيت شرعيته في المحافل الدولية، عبر تقديم نفسه كـ"زعيم معتدل" يقف ضد التطرف، ويؤمّن حرية العبادة للأقباط واليهود والهندوس، بينما تُخنق داخل بلاده كل مظاهر التدين غير الرسمي، ويُلاحق الإسلاميون بلا توقف في السجون والمنافي.

 

تزامن حديث السيسي عن حرية العقيدة مع تصاعد الانتقادات الحقوقية الدولية حول ملف المعتقلين السياسيين وانتهاكات الحريات الدينية، ما يجعل خطابه الأخير أقرب إلى محاولة جديدة لتلميع الصورة أمام وفود دينية دولية، في وقتٍ