إلغاء المجانية خضوعا لإملاءات صندوق النقد… التعليم للأغنياء فقط ولا عزاء للغلابة

- ‎فيتقارير

 

التعليم فى زمن الانقلاب أصبح للأغنياء فقط، ولا عزاء للفقراء والغلابة، خاصة مع اتجاه عبدالفتاح السيسي إلى إلغاء مجانية التعليم خضوعا لإملاءات صندوق النقد والبنك الدولى .

فى هذا السياق شهدت الساحة التعليمية خلال السنوات الأخيرة تحولاً جذرياً فى فلسفة التعليم الجامعى الحكومى، الذى كان يعد حقاً مجانياً ومكفولاً دستورياً…. اليوم، أصبحت الجامعات الحكومية، التى تعانى ضغوط التمويل، تتجه بخطى متسارعة نحو نموذج «البرامج الخاصة» أو «المميزة بمصروفات»، ما يثير تساؤلات عن تحويل العملية التعليمية إلى استثمار وربحية دون النظر للقيم المجتمعية، ويضع آلاف الطلاب تحت ضغوط مالية غير مسبوقة. 

ظاهرة البرامج الخاصة تنتشر اليوم فى كبرى الكليات بالجامعات الحكومية، من كليات القمة (الطب والهندسة وطب الأسنان) وصولاً إلى الكليات النظرية (التجارة والحقوق). وهذه البرامج، التى غالباً ما تتميز بالدراسة بلغة أجنبية أو تقديم تخصصات حديثة، يتم تسعيرها بمصروفات مرتفعة تتجاوز بكثير الرسوم الرمزية للبرنامج العام.

 

تصفية طبقية

 

كانت كلية التجارة بجامعة القاهرة، قد شهدت أزمة مؤخراً بسبب منع عدد من طلاب برامج الساعات المعتمدة والبرامج الخاصة من أداء امتحانات «الميدتيرم» (منتصف الفصل الدراسى)، لعدم سداد المصروفات الدراسية. 

الطلاب والأهالى وجهوا استغاثات على وسائل التواصل الاجتماعى، معبرين عن صدمتهم من حرمان أبنائهم من تقييم أساسى فى مسيرتهم التعليمية بسبب ظروف مالية قد تكون خارجة عن إرادتهم.

وهو ما اضطر إدارة الكلية والجامعة للتدخل واحتواء الأزمة، حيث تم التوافق على تقسيط المصروفات وإعادة الامتحانات للطلاب الممنوعين، ولكن الأزمة كشفت عن سياسة تطبق بشكل روتينى وتفتقر للرحمة الاجتماعية. 

من جانبهم حذر خبراء التربية من أن التركيز على الربحية يؤدى إلى تآكل جودة التعليم العام وإهماله لصالح البرامج الخاصة التى تدر دخلاً أكبر .

وقال الخبراء إن الأزمة تكمن فى تمويل البحث العلمى والبنية التحتية، مطالبين دولة العسكر بإيجاد مصادر تمويل مستدامة للجامعات لا تعتمد على جيب الطالب. 

واكدوا أن توجه لإلغاء المجانية يمثل «تصفية طبقية» داخل الجامعات الحكومية. حيث يتم تحويل المؤسسة الحكومية إلى «باب خلفى» للتعليم الخاص، ويصبح التعليم المميز مقتصراً على الفئة القادرة، ما يضرب فى الصميم فكرة «الحراك الاجتماعى» التى كانت الجامعات الحكومية ركيزتها الأساسية

 

التعليم سلعة

 

فى هذا السياق قالت الخبيرة التربوية، الدكتورة بثينة عبدالرءوف، إن التحول نحو الربحية فى التعليم بدأ منذ أواخر التسعينيات مع نشأة الجامعات الخاصة، التى وجدت كمشاريع تجارية بحتة تهدف إلى تحقيق الأرباح دون الالتزام بالقيم التعليمية الحقيقية.

وأوضحت بثينة عبدالرءوف فى تصريحات صحفية أن هذا الاتجاه لم يقتصر على الجامعات الخاصة، بل امتد إلى الجامعات الحكومية من خلال إطلاق برامج خاصة بمصروفات مالية مرتفعة، تعمل بنظام الساعات المعتمدة أو ما يعرف بنظام لكريدت 

وأضافت أن برامج المصروفات فى الجامعات الحكومية باتت تعامل الطلاب على أنهم عملاء يدفعون مقابل الحصول على الخدمة، مشيرة إلى تجربة ابنتها فى كلية الهندسة بجامعة القاهرة، حيث دفعت رسوماً سنوية تصل إلى 80 ألف جنيه فى برنامج «الكريدت»، رغم كونها طالبة فى جامعة حكومية.

وأكدت أن هذا يعكس معاملة الطلاب فى البرامج الخاصة على نحو شبيه بالخاص، بعيداً عن الرسالة التعليمية للجامعة. 

وأشارت بثينة عبدالرءوف إلى أن البرامج الخاصة أحياناً تجلب هيئة تدريس من الخارج مقابل رسوم إضافية، وهو ما يكرس فكرة أن المال هو المحرك الأساسى للعملية التعليمية، معتبرة أن وجود الدفع المالى بحد ذاته يقوض القيم التعليمية ويحول التعليم إلى سلعة. 

ولفتت إلى أن منظمة اليونسكو أقرت مجانية التعليم من المرحلة الأساسية وحتى الثانوية، مؤكدة شعار «التعليم للجميع»، مشيرة إلى أن أغلب الدول الأوروبية لا تفرض مصروفات على المدارس العامة، وهو ما يضع حكومة الانقلاب فى مواجهة مفارقة اجتماعية: الطلاب معتادون على مجانية التعليم فى المرحلة الجامعية، لكنهم اليوم يجبرون على دفع مبالغ كبيرة للحصول على برامج تعليمية معينة. 

 

مرحلة حرجة

 

وأكدت بثينة عبدالرءوف أن منع الطلاب من دخول الامتحانات فى حال عدم تسديد الرسوم يخلق أزمة اجتماعية حقيقية، حيث يصبح الطالب ضحية للظروف المالية، ويحرم من حقه فى إكمال دراسته، وهو ما يتطلب إعادة النظر فى آليات تطبيق برامج المصروفات. 

وأوضحت أن الجامعات كانت سابقاً تراعى الطلاب غير القادرين على السداد، من خلال منحهم شهادات إعفاء أو تحويلهم إلى برامج مجانية، بدلاً من إجبارهم على دفع مبالغ تفوق طاقتهم، بما يسمح لهم بإكمال دراستهم والاستفادة من الكورسات والدورات العلمية دون معوقات مالية. 

وشددت بثينة عبدالرءوف على أن ولى الأمر يجب أن يكون على دراية كاملة بمصاريف البرامج الخاصة قبل تسجيل أبنائه فيها، لتجنب الوقوع فى مشاكل عدم القدرة على السداد، مشيرة إلى ضرورة وجود برامج دعم ومساندة للطلاب محدودى الدخل، لضمان عدم المساس بحقهم فى التعليم. 

وأشارت إلى أن التعليم العالى فى مصر يمر اليوم بمرحلة حرجة بين الربحية والقيم التعليمية، مؤكدة أن تجاوز الجامعات الحكومية للحدود المالية وفرض الرسوم على البرامج الخاصة دون مراعاة الظروف الاجتماعية يعكس خللاً فى السياسات التعليمية، ويهدد فرص العدالة والمساواة بين الطلاب. 

وقالت بثينة عبدالرؤوف إن الحل يكمن فى إعادة النظر فى نظام البرامج الخاصة، وضمان فصل التعليم الأساسى المجانى عن أى برامج اختيارية مدفوعة، مع وضع ضوابط شفافة للرسوم، وإتاحة فرص الدعم للطلاب غير القادرين مالياً، بما يعيد للجامعة رسالتها التعليمية الأصيلة. 

 

شهادة التخرج

 

وقال الخبير التربوى الدكتور مجدى حمزة، إن التعليم فى زمن الانقلاب أصبح يفتقر إلى التركيز على المهارات والمعرفة التى يحتاج لها سوق العمل، وأصبح الهدف الأساسى للطلاب الحصول على «شهادة التخرج» دون اكتساب المهارات اللازمة.  

وأضاف حمزة فى تصريحات صحفية أن الجامعات الخاصة أدت إلى تحويل التعليم إلى سلعة، وأن عدوى الربحية انتقلت إلى الجامعات الحكومية من خلال البرامج الخاصة بمصروفات، ما جعل العملية التعليمية تشبه المدارس الخاصة والدولية، حيث تحدد القدرة المالية للطالب دورها فى مستوى التعليم الذى يتلقاه. 

وأوضح أن خريجى الجامعات يواجهون واقعاً صعباً، إذ غالباً ما تفتقر مؤهلاتهم إلى الكفاءات المطلوبة فى سوق العمل، ما يؤدى إلى البطالة وصعوبة إيجاد فرص مناسبة مؤكدا أن القادر مالياً يحصل على تعليم أفضل، بينما الطلاب الأقل قدرة مادياً يواجهون تحديات كبيرة فى متابعة دراستهم، ما يثير قلقاً حول تحول التعليم من رسالة وقيم إلى أداة للربح والاستثمار. 

وشدد حمزة على ضرورة ربط التعليم بسوق العمل بشكل وثيق، مشيراً إلى أن بعض الكليات التكنولوجية بدأت مؤخراً فى تطوير مناهجها لتتماشى مع متطلبات العصر، وهو ما يجب أن ينعكس بشكل إيجابى على الخريجين لضمان كفاءتهم وقدرتهم على المنافسة.

وأضاف أن العملية التعليمية يجب أن تركز على المعرفة العملية والمهارات، وليس فقط على إتمام الساعات الدراسية والحصول على الشهادة. 

وانتقد حمزة حادثة منع بعض طلاب كلية التجارة بجامعة القاهرة من دخول الامتحانات بسبب عدم سداد الرسوم، واصفاً ذلك بالمخالفة للدستور والقوانين المصرية، التى تكفل للطالب حق التعليم حتى فى حال تعثره فى دفع المصروفات.

وأشار إلى أن هذا الموقف يمثل كارثة تعليمية، مستدلاً بأنه لو كان الطالب ابن رئيس الجامعة أو ابن عميد الكلية، لن يسمح لأحد بمنعه، ما يؤكد ازدواجية المعايير وغياب العدالة. 

 

البرامج الخاصة

 

وأكد حمزة أن البرامج الخاصة تقتصر غالباً على الطلاب الأغنياء، وهو ما يزيد من الفجوة الطبقية ويحول التعليم إلى أداة للتمييز الاجتماعى، بدلاً من أن يكون وسيلة لرفع مستوى المجتمع بأكمله.

وأوضح أن استثمار التعليم يجب أن يكون فى قيمة ورسالة الجامعة وليس فى الأموال، محذراً من أن استمرارية هذه السياسات ستؤدى إلى تزايد الفجوة بين شرائح المجتمع وتقويض العدالة التعليمية. 

وأشار حمزة إلى أن التعليم فى مصر بحاجة إلى مراجعة شاملة، لتصحيح المسار وضمان أن يحصل جميع الطلاب، بغض النظر عن حالتهم المالية، على فرصة متساوية لتلقى التعليم والتخرج بمؤهلات تؤهلهم لسوق العمل.

وأضاف أن المنظومة التعليمية يجب أن تعود لترسيخ القيم والمعرفة، مع وضع ضوابط صارمة على البرامج الخاصة، لمنع أى استغلال مالى على حساب حقوق الطلاب والمجتمع.